لوكربي بين عدالة استقالة رئيس
القضاة والقرار السياسي الأمريكي

إننا غالباً لا نصدق عندما نرى اللص يحمل شمعة بل نبادر إلى تحيته باعتباره واحداً من الجيران وهو يمثل الفساد في الأرض .. لماذا أحدث القارئ عن القتلة واللصوص والفساد ؟! .
لأني أريد أن أحدثه عن أمريكا ..

وأريد أن أضع إصبعه على اللعبة البسيطة والمدهشة التي تمارسها هذه الدولة وتضحك بها على ذقن العالم في وضح النهار .. فأنا أحس أن خدعة الشمعة هي بالضبط الخطة المفضلة الآن في أمريكا والمتمثلة في إصرارها المستثمر بأن هذه الشمعة التي تحملها مشعل الدولة الحارسة على العالم .
فالعالم كله سمع أن أمريكا تطالب بالمتهمين الليبيين لمحاكمتهما محاكمة عادلة نزيهة ورفضنا في باديء الأمر .. العالم كله يعتقد أن ذلك يعني ببساطة أن أمريكا ترغب في التفاهم معنا .. ونحن بدورنا نرفض التفاوض على أبنائنا رفضاً باتاً .

 

والعالم يعتقد أن ذلك يعني ببساطة متناهية أننا نرفض التفاهم .. المحكمة تضعنا في قفص الاتهام مقدماً باعتبارنا دعاة لتحرير الشعوب المحكمة ومجلس الأمن وكافة الدوائر الدولية من الخشب المجوف تعتبر أمريكا الضحية والداعية إلى السلام .. 
لا أحد يريد أن يصدق أن رفض طلب تسليم أبنائنا إلى محكمة صورية دعوة ملحة للتفاهم .

 

إنني لا أريد أن أثقل على القاريء بإطالة النقاش في هذه النقطة ولكني أحتاج لفت نظره إلا أنه هو أيضاً سوف يصدر نفس الحكم الجائر الصادر عن محكمة لاهاي الدولية لو كان يراقب قضيتنا من منصة القاضي الاسكتلندي تحت ضغط القرار السياسي الأمريكي الذي يهوي بمعلومة ليحطم رأس العدالة .

 

إنه لا يخطر ببال القاريء اى أشكال قط أن أمريكا التي تصرخ بأعلى صوتها في طلب السلام العالمي هي في الواقع الطرف الوحيد الذي لا يملك ثمة ما يقوله على طاولة السلام فالغارة على الجماهيرية دون مبرر وضرب العراق قبل أيام لمجرد أنها تملك رادارات لغرض الدفاع عن كرامتها .
إنني أدعو لنقاش هذه الحقيقة بالتفصيل :

 

دعنا نفترض أن لوكربي ليست مشكلة تخصنا في ليبيا بل مشكلة تخص غيرنا .. دعنا نفترض أن المواطنين المتهمين من فلوريدا والضحايا إنجليز ..

 

أغلب الظن أن الشعب الأمريكي المحب للسلام سوف يبادر إلى تلبية محاكمة المتهمين بل يسارع إلى تسليمهما ودعوة رئيس الحكومة البريطانية ويقتسم معه زجاجة من الويسكي ويتفاهم معه أيضاً . نحن لا يهمنا الويسكي ولكن نتمنى أن نعرف كيف يتفاهم الرئيس بوش الابن مع بلير هل يوافقه على أن الإنسان الإنجليزي ورث الحق الشرعي في التحكم بمجلس الأمن والشريعة الدولية ووضع العدالة الاسكتلندية موضع السخرية ورسم حدودها في مزبلة التاريخ ؟ هل ثمة فرصة للتفاهم مع رجل يعتبرك مقدماً أقل منه إنسانية لمجرد أنك لست إنجليزياً قحاً أغلب الظن أن الرئيس بوش الأبن لن يتفق مع بلير حول هذه النقاط .. 
أعني على الأقل من باب الكرامة الإنسانية وحدها .. فالذي يعتبرك خارج دائرة الشعب المتحضر لا يمنحك في الواقع فرصة للإبقاء على صداقته وأغلب الظن أن بلير يعتذر عن هذه الإهانة لأن الاعتذار هنا يعني في الواقع اعتذاراً عن قيام سلطته الدولية نفسها .. وأغلب الظن أن الصديقين المحبين للسلام سوف يفترقان عن نية الحرب وسوف يرفض بوش الأبن وبشدة أي قرار بشأن المتهمين وفق أدلة ظرفية وحيثيات سطحية متناقضة .

 

لو أن الرئيس بوش الأبن أو بلير مواطن عربي لفهم بنفسه - ودون جهد يستحق الذكر - أن أمريكا التي تختطف مواطناً عربياً ليبياً بحكم الإدانة المختلفة مغالطة لكل القيم الإنسانية .
دعنا نطوف العالم ونسأل عند كل بوابة : هل ثمة أحد بينكم يرضى أن يكون كبش فداء لجريمة لم يقترفها ويحرمك من الحرية لمجرد أنك مواطن ليبي . ؟

 

دعنا نطوف العالم ونسأل عند كل بوابة ودعنا نترك للناس الغربيين بالذات فرصة كاملة لتشغيل عقولهم الذائعة الصيت فلعل بينهم ثمة رجل عبقري واحد يملك الشجاعة الكافية والذهن الكافي والكل يقف أمامنا مرفوع الرأس ويقول لنا على مسمع من الدنيا : الأمر بسيط أيها الليبيون البسطاء صدقوا حكم المحكمة في قضية لوكربي ، وأقنعوا أنفسكم حقاً بأنكم بقرة حلوب تذبح في عيد الفصح .! أقنعوا أنفسكم أيها الليبيون أيها العرب أيها المسلمون أيها الأفريقيون يا بقية حثالة الأرض بأن الله يملك ولداً مدللاً واحد أسمه أمريكا اقنعوا أنفسكم بأنكم حقاً غرباء في أرض الله ! .
حتى العقل الغربي الذائع الصيت والذي أشتهر بالحداقة والفهلوة لا يعرف أصلاً أن أمريكا تدين (( المقرحي )) لغرض استنزاف الدولة الليبية بغض النظر عن الأدلة وعن حقيقية الأمور والمتهم البريء ترسله الحضارة الثورية الاسكتلندية ليقبع في السجن وتقبع معه الحضارة الاسكتلندية في غياهب الظلمة فعمره قصير كعمرها والعار سيكللها مدى حياة الأمم . .. 

 

فباسم الإنسانية يطالبنا الغرب بأن نقبل حكم المحكمة .


فباسم الإنسانية يطالبنا الغرب بتعويض أهل الضحايا .


فباسم الإنسانية ينسى الغرب أن الإنسان لا يدعى إنساناً بدون عدالة .

 

فباسم الإنسانية ينسى الغرب أن المحكمة الصورية أساءت إلى اسكتلندا ولتاريخها وللعدالة الدولية . العالم الغربي ينسى ذلك كله باسم الإنسانية وينسى بالذات أن قوات الطوارئ من الأمم المتحدة لن تقف لحراسة بوابة فقط بل لحراسة فلسفة الرأسمالية وأن أول بند في هذه الفلسفة أن الإنسانية ليست سواء .

 

لقد نجح القرار السياسي الأمريكي في آذان أحد المتهمين الليبيين بخدعته البسيطة أعني لأن المحكمة كانت مستعدة أصلاً لقبول الخدعة بحثاً عن راحتها فليرتح ضمير العالم أكثر .. ليغمره السلام والنعاس ليمنحه القرار السياسي العبقري مزيداً من الحيثياث الواهية والأدلة الطرفية الباطلة ليرتح ضمير المحكمة فهي في حاجة ماسة إلى أن تقتل حضارة أمة ثورية .. قضاتها مواطنو هذه الحضارة .

 

وحين يستيقظ ضميرهم سيستقيلون من الوظيفة مثلما فعل رئيس قضاتها ولكن هل يستطيعون أن يتنصلوا من التاريخ الاسكتلندي على الأقل ؟ هل يستطيعون أن يناموا مرتاحي الضمير ؟ لأنه لا بد أن يموت الظلم ولا بد أن يولد جيل آخر ولا بد أن يولد عالم أفضل وسيقف البريء حياً أو ميتاً أمام قاض من نوع مختلف آمن بسوء حال العدالة الاسكتلندية ليصحح مسارها . قلت للقارئ إن هذا الحديث ليس حديثاً سياسياً ولا قانونياً لأن النظام الأمريكي ليس سياسة ولا قواعد قانونية مجردة بل دنيا نصف متحضر ونصف وثني .

 

ولأني أعتقد أن قضية لوكربي قضية الشعب الليبي لا تخصه وحده ولا تخص العرب وحدهم بل تخص الإنسانية بأسرها التي تحتاج إلى الدفاع عن حقها في رفع الظلم . 

 

عـودة