الموت للعاجزين. حتى الثورة.
أيها العاجزون المساكين ما أبعدكم عن الحقيقة المرة.! يحسدونكم أيها العاجزون .. لأنكم تسلكون أبسط الطرق في الحياة ولا تكلفون أنفسكم أية مشقة .. ولستم في حاجة إلى تأويل أي شيء من أموركم .. ولا إلى تفسيره .. كل شيء واضح في حياتكم أيها العاجزون .. لا غموض .. ولا إبهام تتجنبون مسئولية التفكير وما يترتب عليه من تدبير .. ولا تحيدون عن طريقتكم المعتادة وتصرفاتكم المحدودة .. وتتنازلون بسهولة عن أي مهمة فيها صعوبة.. ترحمون أجسادكم وتريحون ضمائركم .. وتخدعون أنفسكم بأساليب مريحة للغاية .. وتستخفون بأي مناكفة تتعلق بما تفعلون وتؤمنون .. وموقفـكم أيها العاجزون ثابت لا تبدل من حيث الاتجاه .. فهو يتعاطى سلبا مع أي وقفة غير معهودة .. فلا تتقبلون المناقشة فيما تؤمنون؟ تلك نعمة يحسدكم عليها الحاسدون المتعبون العارفون لحقيقة ما تفعلون.
والعجيب حقا في حياتكم هو أنكم تفشلون فيما تقدمون عليه ولا تتعظون.. ليس للتجارب أي تأثير في حياتكم .. مهما فشلت أعمالكم .. فلا تغيروها.. ومهما كذبت معتقداتكم فلا تقبلوا إثبات ذلك.. ولكم ميزة في عدم الاعتراف بالحقائق مهما كانت دامغة. ومن الثابت أنكم ترفضون النتائج التي لا تتفق وميولكم .. فاتكالياتكم مسلمات غير مبرهن عليها طبعا. وكل الحقائق والأكاذيب أيضا تكيفونها حسب تلك المسلم بها مسبقا من لدنكم. فعندكم اعتقاد مسبق على سبيل المثال بأن ثمة سحرة وأرواحا شريرة تسرق القمر، وقد تتمادى وتصل إلى الشمس وتلك جسارة خطرة من طرف تلك الغيبيات .. إ ذا أجريت أمامكم تجارب على. أن ظل الأرض هو الذي يقع أحيانا على القمر فيظلم منها أو ظل القمر يقع على الشمس فيكسفها لا تصدقون ذلك .. لأن هذا غير مرغوب منكم. فأنتم أيها العاجزون مسالمون جدا لن يتغير على أيديكم أي شيء، فحياتكم هادئة رتيبة اتكالية حتى النهاية، وتسلكون أيسر السبل حتى ولو أدت إلى الهلاك .. ودنياكم التي يخيم عليها العجز كئيبة رتيبة المعاش ولكنكم قادرون برغم عدم قدرتكم على تكييفها بما يتفق وعجزكم عن تغييرها .. وتسقطون الدروس الصعبة من الماضي .. وتأخذون السهل السطحي الذي لا يحتاج إلى جهد .. وتتبنون خرافات الماضي وتتعمدون إ بعاد غيرها مادامت لا تنسجم مع وتيرة حياتكم السهلة الاتكالية حتى لان كانت حقائق .. فأنتم أيها العاجزون لا تبحثون عن الحقيقة هذا ليس همكم بل تلجؤون إلى ما يناسب حالة العجز فحسب.
أنتم أيها العاجزون شجعتم باعة اللاشىء حتى نصبوا أسواقا وأقاموا مقابر يبيعون فيها الهواء المعلب الذي عندما تفتحون علبته يطير الهواء في الهواء، وتفسرون ذلك بأنه لهذا الغرض بيع و ابتيع .. وشجعتم باعة التراب المطبوخ .. وناقشى الرمل وضاربى الودع وكاتبى التمائم ونافخى النار للكى والدف والزار. أيها العاجزون الطالبون النجدة من الموتى عندما يعجز الأحياء منكم عن النجدة .. أنتم الذين تحققون أمانيكم أثناء النوم على صورة أضغاث أحلام عندما تعجزون عن تحقيقها في اليقظة، وعندما تفشلون في حياتكم تؤجلون النجاح إلى ما بعد مماتكم .. وإذا غلبتم على أمركم بفعل فاعل ولعجزكم فسرتم ذلك بأنه ليس من فعل فاعل حتى لا تحملوا أنفسكم مشقة مقاومته .. وإذا قصرتم في حق أنفسكم من لدنكم فسرتم هذا بأنه خارج عن إرادتكم، إنه بسبب فاعل خارجي حتى تحملوا المسئولية لذاك الفاعل الملعون .. وإذا فشلتم لسبب لا تريدونه خارجيا ولا ذاتيا قلتم إنه الحظ.
وبرغم أن دنيا العاجزين لا معنى لها ولا فاعلية .. وهى باطلة وتافهة .. ودونية. وبرغم أن العاجزين لا تأثير إيجابي لهم في الحياة .. ولا يقدمون ولا يؤخرون وأنهم اتكاليون طفيليون وغير مسئولين ولا جدية في دنياهم فهي هزيلة قشية .. وفارغة وسطحية، والعاجز مخلوق تبريرى ومعذرى وهين والعاجزون لا يخلقون شيئا ولا يغيرون ومع هذا فإن دنيا العاجزين أغنى الدنى وأخصبها وأملؤها وأعمقها أدبيا. فدنيا العاجزين لها الفضل وليس لغيرها في تكوين تراكمات معنوية في الأدب والأسطورة والميثالوجيا والميتافيزيقا خاصة، فلولاها لكان العالم ماديا جافا حسابيا .. ضاربا في مضروب وطارحا من مطروح وقاسما تحت مقسوم وجامعا على مجموع وهندسيا مقعرا ومحدبا وحادا وحرجا ومعكوسا ودائريا ومتقابلا ومتوازيا غير متلاق أبدا .. لولا دنيا العاجزين لكان العالم ضاربا أخماسا في أسداس ومتصلا متكهربا ومشدودا متوترا، لولا العاجزون لكانت حياة البشر عبارة عن نشاط هادى، مسجونة بين الثبات والميكانيكا كشيء محترم وقهرى لا مفر من جحيمه ولكان قاموس العالم مفردات فلزية حبيسة المصطلحات المادية من الذرات والذبذبات والتأيونات والطرد والجذب والتوازن والانعدام.
لكن الجميل كل الجميل للعاجزين الذين أغرقوا الحياة في بحر من الأسطورة ورسموا الصور غير المرئية لما يشاؤون، وفسروا عالم القهر والمادة والتقدم بما يحلو لهم غير آبهين ولا مستحين من العالم التجريبي الفظيع .. لقد زودوا العالم بقاموسهم العجيب الملىء بالمفرادت الهلامية وفتحوا له آفاقا لا تخوم لها .. وأبدعوا في الخيال وسموا به حتى ارتادوا اللامنتهى حيث الإعجاز المنطقي والا إرادي .. ثم يقومون بعملية نكوص ارتدادية إلى الماضي السحيق غير المدون وغير المعلوم ولا المفهوم فيبعثونه بعثا أخاذا يفسرون به الوجود اليقينى تفسيرا أسطوريا يجد له دلالات واهية في المعطيات المادية لهذا الوجود. ومن هذه النقطة الحرجة ينجح العاجزون في تفجير ثورة جدلية بلا جدوى .. فتسود نظرية الخرافة ويهرب المنطق من الحلبة .. وبصير العلم سفيها ومقزما .. أمام الهالة الزخرفية الشائقة والقزحية يجد كل شئ تفسيرا له في المجازات العجزية التي ليست جادة وبالتالي ليست مكترثة بالدفوعات العلمية .. وهكذا تستولي روح العاجزين على أفئدة الدهماء فيحيدون عن مواقع النصب والمغالبة والجد إلى مواقع التسليم السهل بمنطق العاجزين الذي لا يعترف بقانون الذاتية ..
ومن هنا تجد الهزائم مبررها في ثقـافة العاجزيـن، وتجد النكسـات تفسيرها في الحظ، ويجد التقصير مبرره في اللاإرادية .. وللانحطاط أسبابه الضرورية ويصبح المسئول غير موجود فهو مفهوم بلا ما صدق (كما يقول علم التفسير وتكون الماورائية السالفة أو المستقبلية مخزنا لا ينفد من التبعات التي ترمى للتملص من المساءلة.
وتجلس دنيا العاجزين القرفصاء على هشيم حياة الوهم، قانونها التنصل والإسقاط والرضوخ لكل ألوان الاستلاب .. والتخلص من أعباء الحيثية المعنوية والجاهزية لاستيعاب الامتهان وتبريره والقابلية للتنكر التراثى والمستقبلى هروبا من المواجهة .. وينحاز العاجزون دائما إلى مصدر عجزهم فيتسامحون مع لاطمى خدودهم وقفيهم، ويخلقون مصوغة مرضية مرضيا لذلك .. ويدينون الفرص والظروف والحظوظ والغيب والأجداد ولا تخلو صحائفهم يوميا من الخطوط المتقاطعة ومربعات البروج وقوائم اليانصيب .. وترهف حاسة التطير وتتوطن محاولات التبرير وإجلاء الغموض .. وقهر القلق، وخلق التوازن الكاذب باطلاع الفال وتصديق برج الميلاد وضرب الودع والتاقزة والشابرة، وتفسير الأحلام والتوسل بالطواطم والأوثان والسلف، والتعويض بالغلو في اضطهاد المساكين من قبل العاجزين، فيهمل عالم الطفولة والأمومة، ويقهر إسقاطا تلقائيا كبحث عن التوازن المنهار .. ويصبح للهو معنى للانصراف والتغييب غير الممل، وتتسطح العمليات الثقافية وتحل رواية وتبادل (النكت) محل الإبداع والنقد الأدبى.. ويكون اللهو قضية تحل محل القضية الحقيقية، ويصطف اللهو مع العبث مع الحاجات غير اللازمة إلى جانب العقم والاتكال والتنافر الاجتماعي، والانهيار الخلقي والغلو في الأخلاق .. كلها أمراض العاجزين تجد تفسيرها في حالة العجز التي يعيشونها.
الثورة: عندما يصل توغل شعور العجز إلى كل جزء من حياة العاجزين .. ويفقد العاجزون الشعور بالعجز وبكل ما يترتب عليه من انحطاط .. وعندما يصبح التبخيس والهوان والنذالة أمورا غير مستفزة تكون حياة العاجزين قد وصلت درجة الصفر التي هي مستوى الاستقرار في التفاهة والهامشية، عندها يبدأ العد التصاعدي في تراكم الدونية .. ويبدأ الشعور بتراكمها .. ولم يعد أمام العاجزين للثورة على أنفسهم إلا إتاحة فرص المقارنة مع الغير النقيض .. إما بتحريض محرض أو بالمشاهدة .. وتكون الفرصة جيدة إذا وجد التحريض مع المشاهدة .. وتكون جيدة للغاية إذا طرأ على مصدر العجز خلل يشجع على التجاسر، وإذا تتابعت ثغرات الخلل وتم استثمارها وتضخيمها بالدعاية والتحريض فإن الروح المعنوية الميتة لدى العاجزين تدب فيها الحياة. وأول ما تتجه الثورة في هذه الحالة إلى الذات .. ويبدأ العاجز في تعنيف نفسه ويشتد في امتهانها وإهانتها حتى تصبح هي الضحية الجاهزة للفداء .. ويبدأ في تقديم الأنفس التي تمكن العاجزون من ترخيصها قرابين على مذبحة العجز .. وهذا تفسير عمليات الانتحار التي يكثر وقوعها في دنيا العاجزين لأتفه الأسباب وأبسطها .. ويدخل العاجزون في مرحلة التيه بحلقات من الأعمال الفردية غير متصلة ولا غائية . وعادة تصطحب هذه الحالة التدميرية للذات مع بوادر سادية ضد الغير فتجد الفداء من أجل بقرة .. والانتحار من كلمة .. والقتل من أجل شجرة والطلاق من أجل وجبة .. وتشتد الحاجة الوهمية من أجل ترسيم الحدود بين العاجزين على كل المستويات من أوتاد الخيام إلى ماء البئر .. إلى مساحة لعب الأطفال إلى المرور والالتفات ودرجة الصوت ووقع الأقدام، ويحاكى كل عاجز مصدر عجزه حيال العاجزين الآخرين فيمارس كل ألوان التتفيه والعدوانية ضدهم ليخدع نفسه بأنه ليس مثلهم .. ويكون هذا ديدان حياة العاجزين على أي مستوى سواء أكانوا أفرادا أم جماعات أم دولا .. وقد تستمر حياة العاجزين في هذه الحالة دائما مادام الظرف موجودا .. ولكن إذا قيض للعاجزين عامل يساعد على الخلاص فيمكن تحريك وضعهم من الحلقة المفرغة إلى السير في خط ذي اتجاه غير دوراني، ويمكن أن يتحول أسلوب العاجزين المخزي إلى ثورة عارمة ضد مصدر العجز، وتكون عارمة لأن سبب العجز يعيش هو أيضا في حالة الشعور بالكراهية المزمنة والمبررة مزاجيا ضد العاجزين .. وليس في حالة نفسية تجعله يستوعب ردة الفعل بل تكون مفاجأة له ومستفزة .. ولذا تكون المواجهة غاضبة للغاية وغير مسئولة من الطرفين .. وهكذا تندلع الثورة. فالموت للعاجزين حتى الثورة.