علم اقتصاد جديد



بين الاستغلال . . والأجرة

إن كل الأنماط الاقتصادية التي يجري تنفيذها وتطبيقها في العالم هي أنماط رأسمالية، بداية من البيع والشراء وحتى الإنتاج والاستهلاك ، فالشركات والمؤسسات الاقتصادية والمرافق تتعامل كلها بطريقة رأسمالية، على أساس من الربح والنقود، وهي نفسها التي تشكل المناهج الاقتصادية في الكليات والمعاهد.

وبالتالي فان الاقتصاديين والمحاسبين يطبقون الطرق التي تعلموها في دراستهم الرأسمالية، مما يجعلنا بحاجة إلى إيجاد علم اقتصاد جديد كليا يمكن عن طريقه حل المعضلات الجديدة التي تواجه المجتمع الجماهيرى . كما يمكن عن طريقه تجاوز الدراسات الاقتصادية التقليدية وفتح افاق جديدة هي آفاق عصر الجماهير وعالم الشركاء الأحرار. ليقام النظام الجماهيرى وتبنى الاشتراكية القائمة على رد الانتاج لأصحابه وإلغاء الأجرة والايجار والاتجار.

إن علم اقتصاد جديدا هو أمر ضروري ليتمكن العالم معه من مواجهة المعضلات الاقتصادية الخطيرة التى يعانيها ، وليتمكن من إيجاد حلول لها.

وأولى هذه المعضلات الاقتصادية الخطيرة هي معضلة الاستغلال، وثانيتها هي معضلة الأجرة. وخطورة هاتين المعضلتين تكمن في أنه حين يم القضاء على إحداهما يتم الوقوع فى براثن الاخرى.

ففي مجتمع رأسمالية الطبقة، حيث اطلقت يد رب العمل كليا لاستغلال المنتجين، صار الاستغلال فى ظل ذلك مطلقا ، ذلك أن(المذهب الحر)- بحسب التعبير التقليدي- يوفر حرية للباحثين عن عمل، ليختاروا العمل الذي يريدون، في الوقت الذى لا تكون فيه الدولة ملزمة بإيجاد عمل لمن يتعطلون عنه، ويوفر في ذات الوقت حرية لأرباب العمل ليستخدموا من يشاءون. إن للعاملين مطلق الحرية فى قبول العمل الذى يعنى استغلالهم أو رفضه فيصبحون عاطلين عن العمل.

ولأرباب العمل أيضا مطلق الحرية فى أن يعرضوا فرص عمل أو أن لا يعرضوها، وأن يقبلوا لها من يريدون. فهم يتعاملون مع العمال(كبضاعة في سوق العمل) لا أكثر ولا أقل.

إن عشرات الملايين من العاطلين عن العمل في سنة 1982م منهم 12 مليونا فى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها هم حصيلة هذا الصراع المميت بين سلعة في السوق يعرض منها أضعاف ما يرغب أرباب العمل في استخدامه في ظل انعدام أي دور لأية جهة- كالدولة مثلا- في إيجاد عمل لمن لا يتوفر لهم في السوق، وبين مستغل يختار السلعة التي تناسبه، وبالطريقة التي يراها مربحة له دون أن تلزمه جهة ما- كالدولة مثلا- بفرض قيود على اختياره، أو حتى بالتدخل لتعديل مفاهيمه عن العمل والعمال. إننا في غنى عن القول بأن حصيلة البطالة هي مزيد من الاستغلال ومن البطالة أيضا، وهكذا فان الاستغلال في( ظل المذهب الحر) يتصاعد دون حد.

أما في مجتمع رأسمالية الحكومة، فان رغبة القضاء على الاستغلال وإنقاذ العمال من كارثة البطالة، أدت إلى رفض( المذهب الحر) واعتماد نموذج بديل عنه، يتحدد في قيام الدولة بعبء تشغيل جميع القادرين على العمل، مع التدخل في طبيعة العمل ونظام الأجرة وبشكل كامل. وقد استطاعت بعض المجتمعات التي انتهجت هذا النظام الاقتصادي الرأسمالي القضاء على البطالة، وربط جميع الناس بأعمال محددة. وعند هذه النقطة بدأت المناظرة بين المجتمعين المذكورين، حيث يعيب النظام الأول على النظام الثاني تقييده الشغيلة بالأجرة فلا يكون الأجراء أحرارا في اختيار عملهم، ولا في اختيار مجال نشاطهم، ولا في مقدار الأجرة التي يحصلون عليها، حيث تشغل الدولة جميع الناس كأجراء لديها، ويحظر النشاط الحر كليا. فلا يوجد تاجر حر، ولا مقاول حر، ولا عامل حر ليختار عمله أو مهنته.

كذلك يعاب على النظام الأول اعتماده الربح كغاية للنشاط الاقتصادي، فهو يدعي بعدم إمكان إيجاد نظام اقتصادي بديل ينسجم مع الحضارة المعاصرة دون أن يعتمد الربح كاساس للعملية الانتاجية برمتها. ويستدل على ذلك بعدم قدرة النظام الثاني على إيجاد هذا البديل ونعامله وفق أطروحة الربح ذاتها، مما يرتب في نهاية المطاف الاقتناع منطقيا بتركز رأس المال في يد طبقة واحدة تسعى لمضاعفة أرباحها بزيادة سعر السلعة أو حجم المادة المستهلكة عن طريق إيجاد أسواق جديدة لتصريف إنتاجها، وتوفير المواد الخام بكل الطرق بما في ذلك عمليات الغزو المسلح بما يبرر حركة الاستعمار تلك التي انطلقت بكل قوتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من أوروبا فى اتجاه العالم الثالث. واعتبرها الناس بعد ذلك سببا أساسيا في انحراف الحضارة المعاصرة، وفي المآسي التي تعانيها الانسانية باعتبارها حركة معادية للانسانية والحرية والتقدم بتوجهها للاغتصاب والاستغلال؟ حيث انحصرت نتيجتها في تفوق أوروبا وسيطرتها على بقية الشعوب ونجاحها في سرقة مقدراتها المادية وتشويه مقوماتها المعنوية القومية والدينية. 

غير أن فشل نظام رأسمالية الحكومة في إيجاد علم اقتصاد بديل عن الاقتصاد الرأسمالي الاستغلالي المعتمد على الربح، ليس حجة علمية يمكن الركون اليها لتبرير استمرار نظام الاستغلال. كما أن السعي الحثيث لتدمير نظام الاستغلال ليس مبررا للوقوع في براثن هيمنة الحكومة لتحل محل أرباب العمل الرأسماليين، فيستمر بهيمنتها نظام الاستغلال المتمثل في الأجرة والايجار والاتجار. وحتى يمكن الخروج من الاستغلال والأجرة معا، بات منطقيا ضرورة إيجاد علم اقتصاد بديل ينجح في حل المشكلات الاقتصادية جذريا، لينعتق الانسان من كل القيود، فيصبح حرا ويصير بالتالى سعيدا.

إنه بنجاح النظرية العالمية الثالثة في القضاء على الاستغلال وعلى الأجرة معا يهل على البشرية عصر جديد، ويخلق فيها عالم سعيد لانسان حر سعيد، قضى على الاستغلال والأجرة ووصل إلى الفردوس المفقود الذى هو المجتمع الجماهيري.


موقف الدولة

فى ظل (المذهب الحر) تمكن أرباب العمل من تسخير الدولة لحماية مصالحهم، واناطوا بها مهمة سن القوانين ومهمة رعايتها، وحتى وضع الخطط الخاصة بتدكيس الثروات لديهم. إن عمليات الغزو والاستعمار الجديد بشركاته متعددة الجنسيات ليس إلا تعبيرا عن الدور الذي لعبته الدولة تحت سيطرة الرأسماليين. فلا يكون ثمة مجال أمام هذا المذهب فى الانتقاد الذى وجهه له (المذهب الاشتراكي التقليدي) أو مذهب هيمنة الدولة الذى عبر عنه في( شروح الكتاب الاخضر) (مذهب رأسمالية الحكومة) فحين استغلت الدولة( المذهب الحر) كأداة حماية للاستغلال، وكشرطي يحرس مصالح الرأسماليين لا يهمها المنتجون فى شيء كثير أو قليل سواء حصلوا على عمل حقير أو طحنتهم البطالة، فان المسافة التي تفصل المذهبين تكون قد قاربت على التلاشي بسبب التشابه الكبير الذي حققه المذهبان في مختلف اطارات الفكر في الحلول العلمية، وكذلك التطبيقات في شأن تدخل الدولة في الحالتين، مرة لتحمي استغلال أرباب العمل للعمال وفي المرة الأخرى لتنظيم فرص العمل. وفى هذه الأخيرة يتم تحويل الجميع إلى أجراء لدى الدولة، والجمعيات التعاونية التي هي المرحلة الثالثة في تطور مجتمع رأسمالية الحكومة، ستتحول إلى مزارع حكومية ملكا للحكومة ويتحول الفلاحون فيها إلى أجراء لدى الدولة، وبالتالي يسجل هذا المجتمع عودة فعلية إلى زمن الاقطاع الجماعي.

فحين تنشئ الحكومة مزرعة جماعية لكل ألف شخص فانها في واقع الأمر تنشئ إقطاعية منفصلة بألف شخص. وهكذا فان آلاف الاقطاعيات تنشأ بهذا الشكل وتحوى ملايين الأجراء الواقعين تحت هيمنة الاقطاعي الجديد الشديد الوطأة الذي هو الدولة.

وفي هذا الوضع نجد أن أصحاب المزارع التعاونية يبيعون إنتاجهم بالطريقة الرأسمالية للمستهلكين ليحصلوا على قدر عال من الأرباح. ويعترض المستهلكون على ذلك، فتحاول الحكومة التدخل للتوسط بين الجمعيات التعاونية والمستهلكين، الأمر الذي جعل الدولة تقع في منزلق لا يليق بها كدولة اشتراكية، حيث تجد نفسها دولة رأسمالية تقليدية، وهذا يعنى أن المشكلة لم تحل بعد.

فالصراع مستمر بين الحكومة الرأسمالية هذه، وبين الجمعيات التعاونية، بسبب تدخل الحكومة لدى الجمعيات لتخفيض أسعار المواد الزراعية للمستهلكين، والجمعيات ليست راضية عن هذا. كما أن المستهلكين يضغطون على الحكومة أيضا كي تتدخل للحد من غلاء منتجات الجمعيات التعاونية. وتتوسع رقعة الصراع بين المستهلك والمنتج وأصحاب الجمعيات التعاونية كل على حدة.

ثم إن الدولة تحاسب الجمعيات التعاونية وتنال منها الضرائب وتتأكد ما إذا كانت هذه الجمعيات ناجحة أم لا، وهي تحاسبها بمقاييس رأسمالية عن طريق السؤال عن الدخل والأرباح التي تم جمعها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة سعر السلعة دون زيادة في عدد وحداتها.


المحاسبة

السلعة هي وحدة إشباع الحاجة، وبتسويقها يتمكن المذهبان المذكوران من الحصول على أرباح عن طريق مضاعفة سعرها، فأصبح الطباشير مثلا إذا كلف صاحب المصنع عشرة دراهم فانه يبيعه بعشرين درهما، فيعد والحالة هذه رابحا بمنطق المحاسبة الرأسمالية التى تحصي سعر التكلفة منفصلا عن الدخل الذي يجب أن يزيد في هذه الحالة قدر ما يسمونه ربحا. إن دخله فقط هو الذي زاد أما السلعة فأنها باقية بقدرها نفسه، دون أي زيادة. هذا هو المقياس الرأسمالي في حساب الأرباح، وليس هناك أدنى اهتمام بزيادة السلعة، وحين يريد صاحب مصنع الطباشير أن يبالغ في أرباحه فليس أمامه إلا أن يبيع اصبع طباشيره ذاك بثلاثين درهما ليتضاعف ربحه مرة أخرى. وتقدم التقارير في هذه الحالة باعتبار أن المصنع ناجح وأن اقتصاد الدولة رابح ومزدهر وفقا للمحاسبة الرأسمالية.. ولكن، هل هذا المقياس المحاسبي صحيح؟

حين نضاعف سعر اصبع الطباشير، من أين تاتي الفروق التي نعتبرها ربحا للمصنع؟ انها تاتي من المستهلكين الذين اشتروا الطباشير، وكذلك الفروق في جميع السلع التى نعتبرها مربحة يدفعها المستهلكون، فهم يتحملون وزر رفع الأسعار وهم الذين يتضررون من وجود أرباح على أي سلعة في المجتمع، وحين يتضرر جميع المستهلكين وتصبح حياتهم صعبة لا تطاق بفعل غلاء السلع وارتفاع أسعارها، فهل نعتبر اقتصاد هذه الدولة مزدهرا. في الواقع، إن اقتصاد هذه الدولة يعاني أزمة فعلية، حيث إنه بازدياد الأسعار تتكدس أموال المستهلكين فى جيوب الرأسماليين افرادا كانوا أم حكومات، وبالتالى تقل مقدرتهم في الحصول على حاجاتهم. فلو أراد مستهلك الحصول على اصبع الطباشير كان عليه في السابق أن يدفع مقابله عشرة دراهم لكنه لن يحصل عليه فى ظل ارتفاع الأسعار- بقصد جمع أكبر قدر من الأرباح- الا إذا دفع ثلاثين درهما فماذا يعني ذلك؟

إنه التضخم. فعندما تقل القوة الشرائية للعملة، يحتاج المستهلكون إلى مقادير مضاعفة من وحدات العملة للحصول على حاجاتهم، فتضطر المصارف المركزية إلى طبع نقود كثيرة لاستعمالها في أيدى المستهلكين ، وهكذا يكون المتداول من العملة كثيرا، ويكون مردوده من السلع قليلا. فإذا كان راتب شخص ما مائة دينار في وضعه العادي، فهو مضطر لأن يصبح راتبه ثلاثمائة دينار ليفي بحاجته في ظل التضخم.

وبالتالي، فان الزيادة في الرواتب هي علاج تلفيقي لمشكل مستعص اخر هو فقدان العملة لقيمتها من ناحية، وزيادة أرباح الرأسمالية من ناحية أخرى، بما يصبح معه المستهلكون مجرد حمالين لحزم الأوراق النقدية التى يقبضونها كمرتبات، ويحملونها إلى خزائن الرأسماليين في أسواق السلع الاستهلاكية. ولو أن المستهلكين كانوا يدركون السر في زيادة رواتبهم لما قبلوا بهذه الزيادة، ولسعوا إلى حل جذري غير هذا الحل التلفيقي.

إن الاقتصاد المزدهر هو أن ينجح المصنع في زيادة عدد وحدات السلعة، فبدلا من اصبع طباشير واحد، ينتج ثلاث أصابع، فيتوفر للمستهلكين حاجتهم من السلعة، ويزداد دخل المصنع بمقدار الزيادة في الانتاج. إن علم الاقتصاد الجديد يجب أن يقام على هذا الأساس، ليلغي بعد ذلك علم الاقتصاد الرأسمالي المتخلف المعتمد على زيادة الربح الذي يطبقه المجتمع الصناعي، ويفرضه على العالم في شكل معاملات يومية ومناهج دراسية، دون أن يمنح الشعوب وجماهير الكادحين فرصة تمحيصه وايجاد بديل عنه.


اقتصاد جديد

إن الضرر الذي يلحقه علم الاقتصاد التقليدي والنظام الاقتصادي المطبق في العالم الصناعي بالحضارة يتضح أثره الكبير في تفتت الجماعات البشرية، وانهيارها، وتدمير كياناتها القومية والدينية. وإذا كانت إرادتنا تتمحور حول إيجاد مجتمع حر وسعيد، فان تخلصنا من الاستغلال ومن الأجرة، هو أول الطريق لبناء علم اقتصاد جديد.

ففي ليبيا، لكي يقوم المثل الجماهيري للمجتمع الحر السعيد كانت هناك ضرورة ملحة- لا يمكن الاستهانة بها- هي كيف نحول دون سرقة أموال المستهلكين من قبل المستغلين الذين يسعون علنا الى السرقة وتكديس (الأرباح) إن الفا وأربعمائة مليون دينار كل سنة على سبيل المثال، كان السماسرة و السراق يعتبرونها أرباحا، وهي فى الواقع مرتبات الذين يؤدون خدمة عامة فى المجتمع، وكان عليهم أن يدفعوها مقابل حصولهم على حاجتهم المعاشية الأساس.

تلك الحاجات التي احتكرها بعض النصابين من التجار والسماسرة وحالوا بينهم وبينها، فارضين إتاوة مالية عليها بحجة البحث عن الربح.. الأمر الذي يعد حصول المحتاجين على حاجاتهم في ظله مستحيلا دون حدوث عملية الاستغلال والسرقة لهم. وليس من سبيل للحيلولة دون وقوع عمليات الاستغلال والسرقة تلك الا بالغاء علم الاقتصاد التقليدي ونظام المحاسبة التابع له.

ومعنى ذلك هو إلغاء كافة النشاطات الاقتصادية الخاصة غير الانتاجية باعتبارها مصدر ذلك الاستغلال.

فالسمسرة الحرة والمقاولات والتجارة الخاصة وما يماثلها من نشاطات اقتصادية غير إنتاجية تعد مرفوضة بشكل قاطع لضررها البالغ بالمستهلكين وأثرها السلبي على السلعة، وبالتالي تأثيرها فى انهيار الإنتاج وحدوث التضخم. 

إن التجارة الخاصة هي نشاط استهلاكي غير إنتاجي. والتاجر ينصب اهتمامه على جلب البضائع ليعرضها باسعار مضاعفة، ولا يوجد أي مبرر لذلك. فالشعب أقدر على توفير البضائع ليستخدمها بسعر التكلفة دون أية زيادة في أسعارها.

واذ يبيح النظام الرأسمالي التجارة الحرة التي لا يمكن تقييدها بسبب سعي أصحابها إلى زيادة أرباحهم.. يكون قد أباح نشاطا استغلاليا. وخلق ضغوطا قاهرة على إنسان آخر ماديا ومعنويا هو المستهلك الذي تم إفقاره، والغاء حريته. إن ذلك لا يتلاءم قطعا مع المنطق الديمقراطي، بل هو لا يتلاءم حتى مع الديمقراطية التقليدية الزائفة، لأنه يمنح الحرية لفرد واحد ليقهر الأغلبية ويسلبها حريتها. لكنهم يقولون بأنه حر وليس باجير.. وهذا يكفي لاستمراره كمستغل.

والحلاقة التى هي مهنة تافهة جدا، يعيش مزاولها على ما يتقاضاه مقابل حلاقته لشعر الآخرين. هو حر في الواقع لأنه ليس أجيرا، ويستطيع أن يعمل أو يرفض العمل، غير أنه فرد غير منتج.. فحالقو الشعر يشكلون. مهنة استهلاكية غير منتجة تعيش بشكل طفيلي على حساب الآخرين.

ان فئة من الكسالى والتنابلة تضاف إلى رصيد التخلف بالقبول بمثل هذه المهنة. وليس أمام المجتمع الاشتراكي ليتمكن من تحقيق التقدم إلا القضاء على جميع الفئات الاستهلاكية غير المنتجة. لأن بقاءها سيدفع باعداد كبيرة من الناس إلى مزاولتها لبساطتها وسرعة مردودها وكثرة أرباحها، فينحط المجتمع وينهار اقتصاده بتكالب كثير من الناس على مزاولة نشاطات اقتصادية سلبية كهذه تضر بمصلحة المجتمع.


استغلال . . أو أجرة 

إن رفض النشاطات الخاص غير الإنتاجية والغاءها، لا يعنى على الاطلاق أن يتحرر المنتجون إذا ما استبدل نظام الاستغلال المعروف (بالمذهب الحر) بنظام الأجرة وملكية الحكومة المعروف (بمذهب ملكية الدولة).

فحيث تصبح المصانع والمزارع الجماعية وجميع الحرف والمهن ملكا للدولة وباشرافها.. ويكون جميع المنتجين في هذه المواقع الإنتاجية مجرد أجراء لديها تتسلم منهم الإنتاج وتسلمهم مقابله أجرة، فان المجتمع في هذه الحالة يكون قد وقع في المحظور الذي هو (الأجرة) بعد أن حاول التخلص من الاستغلال.

والأجراء ليسوا سعداء، لانهم ليسوا أحرارا. فهم غير مطمئنين على مستقبلهم المربوط بأجرة يتحكم فيها غيرهم. ويكون من يتحكم فى أجرتهم سيدا لهم، ويكنون عبيدا له. ولا شك أن كفاح الأجراء سيستمر دون توقف حتى تتحقق حريتهم، أو يستشهدوا من أجلها. فلابد أن يتحرر الانسان فوق الأرض لكي يكون سعيدا، والا فليس هناك داع لأن يعيش. وتظل المسافة التي تفصل الأجراء عن الحرية أو الاستشهاد هي كلها زمن العبودية. وهو زمن مرفوض تنظم الجماهير صفوفها من اجل تدميره بالثورة الشعبية. فاما أن تنتصر الحرية وإما أن ينتصر الاستشهاد.. فليست الثورة بمفاهيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية سوى الخلاص، من وضع العبودية. وحين يثور المطحونون بالعبودية، فانهم يحققون خلاصهم النهائي بالنصر أو الاستشهاد.

ان الانتقال من رأسمالية الطبقة الى رأسمالية الحكومة. هو انتقال من عبودية الاستغلال إلى عبودية الأجرة. انهما وجهان لعملة واحدة تنقلب عن أحد وجهيها إلى الوجه الآخر دون أن تتبدل حقيقتها ودون أن يتغير جوهرها.

ويعاني المستغلون والأجراء في ظل الوضعين معا ظروفا قاسية ومأسوية، ليس إلى تحقيق سعادتهم في ظلها من سبيل لانهم يفقدون حريتهم، وتسلط أدوات قهرية ودكتاتورية عليهم، صاروا عبيدا حقيقيي ، رهنوا حياتهم مقابل أجرة لأرباب عملهم أفرادا كانوا أو مؤسسات، الأمر الذي يجعل انعتاقهم مستحيلا دون الخروج على الوضعين معا وتجاوزهما عمليا وتطبيقيا. والعلاقة الجدلية القائمة بين المذهبين وتناقضهما مع مصلحة المنتجين أدت جدليا- أيضا- إلى إيجاد حل لهذه المعضلة يتمثل في النظرية العالمية الثالثة التي خلصت المنتجين من النطاق المضروب حولهم بتأرجحهم بين الاستغلال والأجرة فاجتازوا هذه العقبة نهائيا، بالغاء الاستغلال وإلغاء الأجرة كليهما بحتمية تحقيقهم لمجتمع الشركاء . 


شركاء لا أجراء

إن تدمير الاستغلال كان محفوفا دوما بالخوف من الوقوع في المحظور الخطير الاخر وهو الأجرة. فحين قامت ثورة المنتجين في ليبيا. سيطر المنتجون على المنشآت الإنتاجية من الناحية الادارية عن طريق مؤتمراتهم الشعبية الإنتاجية ولجانهم الشعبية الادارية التي كانت قبل ذلك تحت سيطرة ملاكها من الرأسماليين أو تحت سيطرة الدولة.

غير أن المنتجين الذين سيطروا على هذه المنشآت، استمروا يتقاضون أجرة على إنتاجهم، كما كانوا يفعلون من قبل دون أن يطرأ أي تغيير على وضعهم كاجراء. وقد تحجج المنتجون الذين لا يملكون وعيا علميا، بأن أجرهم أكبر من المقدار الذي سيعود عليهم من إنتاجهم فيما لو طبقوا نظام المشاركة في الإنتاج. في حين تعلل البيروقراطيون، ليحولوا دون تطبيق نظام المشاركة هذا بأن عائد الإنتاج في ظل المشاركة سيكون صفرا، بسبب انعدام الربح بشكل نهائي. وبهذا يكون الاقتصاد فاشلا وخاسرا بمنظور علم الاقتصاد الرأسمالي الرجعي. غير أن علم الاقتصاد الاشتراكي، الذي يعتمد إشباع الحاجات كغاية لجميع أنواع النشاط الاقتصادي. يعتبر حرية العمال هي الأساس الذي تقاس به مصلحتهم، ولا يعير اهتماما لمقدار الكسب المادي الذي يحققونه في ظله، كنظام ظالم وقاهر يطحن العمال بقيوده الثقيلة، ويظل. تحريرهم من قبضته هدفا مقدسا دونه الموت. على أن جهد المنتجين هو الذي يحدد وحده مقدار الاشباع الممكن لحاجاتهم. بمعنى أنه حين يكون على المنتجين إشباع حاجاتهم بشكل كامل ومثالي، فانهم يزيدون إنتاجهم ويضاعفونه ليتمكنوا من ذلك بحيث لا يمكن إشباع الحاجات في ظل التقاعس أو في ظل عدم الإنتاج.

كما أن علم الاقتصاد الاشتراكي يعتبر وجود الربح في حد ذاته عملا شائنا وسرقة واضحة، ويرى النتيجة الصفر التي ينتقدها البيروقراطيون بناء على رؤيتهم الاقتصادية الرجعية المستخلصة من النظريات الاقتصادية التقليدية هي النتيجة الصحيحة الوحيدة لتطبيق اقتصاد اشتراكيى علمي يعود فيه الإنتاج لأيدى أصحابه، ليشبعوا عن طريقه حاجاتهم الماسة دون حاجة إلى أي نوع من الزيادة الخاطئة فوق سعر التكلفة، لتعتبر بعد ذلك ربحا.

وعلى هذا الأساس فان (النتيجة الصفرية) هذه التي تنتهي اليها العملية المحاسبية في ظل النظام الاقتصادي الاشتراكى العلمي الجديد، لا تسمح إطلاقا بوجود تراكم أو تركز في رؤوس الأموال، كما أنها تستهجن وترفض السعي الحثيث الذي تواصله الشركات الاحتكارية والمتجاوزة للجنسيات، والذي تمارسه الدول الرأسمالية لزيادة أرباحها برفع أسعار المواد المصنعة، وباحتكار المواد الخام واحتكار التقنية، وباحتلال مصادر الطاقة، وبالهيمنة على الشعوب الصغيرة والفقيرة والمتخلفة، وبنشر القواعد العسكرية لغرض الهيمنة السياسية والاقتصادية ووضع الأمم في دوامة الصراع البربري الذي لا يهدأ، والوصول بالعالم إلى الانهيار الكامل، وتدمير الحضارة الإنسانية وإفناء الحياة على الأرض. كل ذلك من أجل السيطرة على السلعة وعلى أسواقها ليتمكن الامبرياليون من زيادة الأسعار. وحرمان أصحاب الثروات الأصليين. من إشباع حاجاتهم المادية، وفرض التخلف، جهلا وفقرا ومرضا على جميع الشعوب. 

ان الاقتصاد الرجعي الذي يبيح الربح هو الذي أوصل العالم المعاصر إلى مرحلة الامبريالية ومرحلة الاحتكار الشامل، التي ينهار بسببها العالم المعاصر كله، ويخضع من جرائها إلى مخاض عسير. قد يؤدي به إلى الهلاك الشامل إذا لم يتداركه المنتجون في العالم بتفجير ثورتهم، وفرض نظام المشاركة في جميع المؤسسات الإنتاجية، وأن يجعلوا من (إشباع الحاجات) غاية وحيدة لجميع أنواع النشاط الاقتصادي، لينتهي إلى الأبد كل نشاط اقتصادي يهدف إلى الاستغلال.

إن ثورة المنتجين ليست مجرد شعار ، إن هدفها هو تخليص المنتجين من الاستغلال ومن الأجرة . وهذا ما سيفجر الثورة الشعبية في العالم كله ليتخلص الناس من الاستغلال والأجرة، فيصبحوا أحرارا وسعداء.. بعد أن يكونوا شركاء في الإنتاج.

إن الثورة الشعبية هي ثورة الجماهير الكادحة، من أجل حريتها وتمتعها بإنتاجها. وستدافع هذه الجماهير عن ثورتها دون أن تكون في حاجة إلى أجهزة تقليدية للدفاع عنها.. كالشرطة والمباحث والجيش وغيرها. فالجماهير بدفاعها عن ثورتها، انما تدافع عن نفسها، فليس ثمة نظام قاهر، ولا طبقة مستغلة ولا فرد يتعالى على الجماهير.. بل إن الجماهير قد أصبحت حرة، ملزمة بالدفاع عن الحرية والحفاظ عليها بشرط أن تكون حرية حقيقية تعيها جماهير الشغيلة وعيا عقائديا.

ويظل تأجيج وعي الشغيلة إلى القدر الذي يكونون فيه قادرين على إدراك الأوضاع النقيضة للحرية من نماذج استغلال مختلفة ونماذج أجرة، وليكون في إمكانهم الدفاع عن ثورتهم وتجذيرها علميا وتطبيقيا، هو أساس انتصار الشغيلة في ثورتها ، وأساس تحررها أيضا.


الفلاحون

في علم الاقتصاد الاشتراكي الجديد، يمكن للفلاح في المزرعة أن يملك إنتاج مزرعته، وأن يتصرف فيه بالطريقة التي تتناسب مع مصلحته، شرط ألا يكون قد استأجر غيره للعمل في المزرعة. وبشرط ألا يغفل حقوق الآخرين الذين لهم علاقة اقتصادية به من المحتاجين لانتاجه في إشباع حاجاتهم. وتظل ملكية الفلاح لمزرعته ملكية انتفاع قادر على التصرف بها بالشكل المناسب له، دون أن يملك أحد الأرض ملكية رقبة.

إن الأرض ملك أفراد المجتمع، ويملكها المنتفع للانتفاع بها، فإذا تخلى عن ذلك سقطت حقوقه فيها.

ويصبح باستطاعة آخر أن يحوزها للانتفاع بها. فالفلاح الذي يحوز مزرعة دون أن يستأجره أحد أو يستأجر هو أحدا آخر، يظل حرا في الانتفاع بها، حتى يتخلى عنها بسبب تغيير نوع نشاطه مثلا، أو بسبب عدم قدرته، أو بسبب عدم حاجته، فيسقط تلقائيا حقه فيها، وتؤول لغيره لينتفع بها.

إن الفلاحة مهنة حرة، فإذا ما تناقضت مع مصلحة المجتمع الاشتراكي فان من حق هذا المجتمع أن يعالجها بالشكل الذي يراه مناسبا له.

لقد وجدنا أن التجارة حرة وكذلك الحلاقة، غير أنها مهن استغلالية وغير إنتاجية، كذلك فان السمسرة والمقاولات مهن حرة هي الاخرى، غير أن المجتمع الاشتراكي يرفضها باعتبارها مهنا استغلالية وغير إنتاجية، وعلى هذه القاعدة فإن أية مهنة سواء الفلاحة أو غيرها، يتضح أنها استغلالية وغير إنتاجية، فان المجتمع الاشتراكي ينتزعها من أيدي أصحابها، ويحولها إلى نشاط اشتراكي إنتاجي للمجتمع دون أن يحول أصحاب هذه المهنة إلى اجراء لدى الدولة، لان ذلك يعي أننا وقعنا في مشكلة جديدة، هي الأجرة، وبرغم أن الفلاح منتج ويختلف عن التاجر وعن المقاول و السمسار والحلاق، الذين لا ينتجون شيئا إلا أنه حين يزرع كيسا من الشعير وينتج عشرة أكياس فهو يستهلك خمسة منها، ويبيع بعد ذلك الخمسة الأكياس الأخرى. وعملية البيع هذه تعيد التجارة إلينا كرة أخرى ونقع في الاستغلال مجددا بسعي الفلاح الى استغلال المستهلكين بزيادة أسعار السلع الزراعية من أجل الحصول على أكبر قدر من الربح، وفي هذه الحالة لم يخرج الوضع عن المحظور الأول الذي هو الاستغلال.


بين المجانية والمقابل

إن المجانية قضية هامة وخطيرة كما أنها ليست مفهومة في ذات الوقت، بسبب توجه النظم الإصلاحية ذات الحلول التلفيقية إلى نهج المجانية هذه، في كثير من مجالات الخدمات، كالتعليم و العلاج و المواصلات والكهرباء والمياه وغيرها.

وهي قد انتهجت هذه السياسة الاصلاحية التلفيقية بسبب عدم تمكنها من إيجاد حل جذري للمشكلات الاجتماعية، ويوضح اتجاهها هذا مدى التخبط والارتباك والتذبذب وضبابية الرؤية التي تعانيها هذه الأنظمة القاصرة فكريا وعمليا، فتعالج قصورها وانحطاطها بدغدغة نوازع الاستهلاك لدى الأفراد في محاولة للحفاظ على البقاء في السلطة . إذ ليس هناك ما يبرر المجانية إطلاقا، ما دام كل فرد يأخذ عائد عمله دون أن يبقى منه شيئا في الخزينة العامة للمجتمع. ولو كانت الضروريات هي التي يجب أن تكون مجانية، فان الأكل واللباس مثلا أكثر ضرورة من كل تلك الأشياء التي يطالب بعض الناس بمجانيتها. وبرغم ذلك فاننا لا نجد من يتجرأ ليطالب بمجانية الأكل واللباس.. وغير ذلك من الضروريات الأولية.

غير أن سياسة المجانية هذه، ليست سوى عملية ترميم رأسمالية يقوم بها نظام إصلاحي تلفيقي بقصد الاستغلال، ولسبب العجز في مواجهة المشكلات الحيوية للمجتمع، وعدم ايجاد حلول جذرية صحيحة لها، وعدم القدرة على إقناع الناس بالسياسة المتخلفة التي تنتهجها هذه الأنظمة على مختلف الأصعدة.

وعند هذه النقطة جاءت المجانية كممارسة الخداع والغش، لتمرير السياسات الفاسدة، وإلا فهل يستطيع أحد أن يجيبنا، لماذا المجانية؟

لماذا المجانية والجميع يعملون ويتقاضون رواتبهم؟ من أجل ماذا يتقاضون هذه الرواتب؟ أليس من أجل إشباع حاجاتهم!

عندما يعمل هؤلاء الناس ويأخذون مقابل عملهم، ماذا يبقى في يد المجتمع أو في يد أي أحد آخر ليقدم الخدمات لجميع الأفراد مجانا؟!

من هو الذي سيتصدق على جميع الناس، ومن أين له، وقد نال الناس أموالهم، دون أن يتركوا منها شيئا؟!

من هو الذي سيقدم الخدمات مجانا وقد نال كل فرد إنتاجه دون أن يبقى منه شيئا. إنه حين يطلب أحد الناس خدمة مجانية فانها ليست كذلك بالنسبة للمجتمع بل هي بثمنها. وحيث لم يبق في يد المجتمع أي قدر من المال فكيف يمكنه أن يقدم خدمة دون مقابل؟! إن المجانية تتحقق في حالة واحدة، وهي عندما يعمل الجميع ويتنازلون عن إنتاجهم لصالح المجتمع، عندئذ تكون خزانة المجتمع قادرة على تقديم جميع الخدمات دون مقابل.

إن المجتمع الاشتراكي لا يمكنه أن يؤاخي بين المجانية والمقابل، فإما أن يتنازل المنتجون عن المقابل الذي يتقاضونه وإما أن يتحملوا ثمن الخدمات التي يتلقونها من هذا المقابل الذي يأخذونه على شكل راتب.

فالمجتمع الاشتراكي الجديد مبني على قواعد علمية وقوانين ثابتة لا يمكن تجاوزها، وإلا انهار البناء كاملا بل اننا لن نكون قادرين على فهم بنية هذا المجتمع، وتحليل فكرته ما لم نلم بهذه القوانين، الماما تاما، فكأى مسألة جبرية أو هندسية يلزم لها استخدام قانون محدد للتمكن من معرفة نتيجتها، كذلك يلزم الالمام بقانون المجتمع الجماهيرى، وقواعده العلمية التي نتج عنها. وتلك التي ترتبت على وجوده، من أجل مواجهة المعضلات العلمية التي تحتاج إلى تقديم حل لها، وتقتضي معالجة خاصة في ضوء ذلك بحيث يستقيم وضعها مع البنية الهيكلية للمجتمع الجماهيرى.

ان المؤتمرات الشعبية الاساسية واللجان الشعبية التنفيذية، واللجان الثورية ذات المهمة التحريضية والترشيدية ليست منفصلة عن تدمير المجتمع التقليدي السابق على الدولة الجماهيرية، كما انها لا يمكن ان تنبثق عن نظام ليس جماهيريا، ومثلها في ذلك مسألة المجانية والمقابل لا يمكنهما ان يلتقيا معا في ظل الاشتراكية، ولعل بعض الذين لم يستوعبوا قوانين المجتمع الجماهيري سيفاجئون اذا الغي المجتمع الجماهيري مجانية التعليم مثلا، وسيعتبرون ذلك- في وسط استغفال شديد- نكسة حقيقية وردة كبيرة في اطار التعليم ورعاية الدولة له، ربما لانهم سيرون في ذلك توجها رأسماليا مناقضا للاشتراكية بمفهومها التقليدي الاصلاحي فيتخذ مثل هؤلاء مواقف عاطفية خاطئة مناقضة للعلم الاشتراكي وفقا للمجتمع الجماهيري ومناقضة لنظام الشركاء الاحرار المسؤولين بانفسهم عن اشباع حاجتهم.

ان استيعاب القوانين التي قام عليها المجتمع الجماهيري سيجعل أي ثوري يتساءل بالحاح من اين جاءت المجانية؟ فحين يكون المجتمع اشتراكيا جماهيريا فلا وجود للمجانية، لان المجانية من طبيعة النظام الرأسمالي، وهي برنامج مخدر من برامج الانظمة الاصلاحية ذات الحلول التلفيقية. 

ان الدليل على التلفيق الواضح فيها انها تقدم بالمجان اشياء تافهة واخرى هامة نسبيا، غير انها لا تقدم مجانا ما هو اهم من كل الاشياء اذ ان الضروريات الاساس للانسان ليست مجانية.

فالطعام والسكن واللباس والمركوب، تلك التى لا يستطيع الانسان ان يعيش بدونها، يطلب من محتاجيها تسديد أثمانها مضاعفة في بعض الأحيان خاصة حين يتحكم فيها الاستغلاليون من السماسرة والتجار والمقاولين.

وحين تكون المجانية مفيدة ونافعة، يجب أن تكون شاملة أو تحوى على الاقل الضروريات الملحة للانسان وعندها يجب التنازل عن المقابل، ليتمكن المجتمع من تعميم المجانية.

وبهذا نصل إلى الأطروحة التي أكدناها مرارا وهي ضرورة التخلص من الأجرة، ولابد إذن- ترتيبا على ذلك- من التخلص من المرتب لكي نصبح أحرارا، فحين ننتج مجانا، لا نكون بحاجة إلى رواتب ما دامت حاجاتنا متوفرة مجانا.

أما إذا كنا نتقاضى رواتبنا، فليس امامنا إلا أن نسدد ثمن الدواء والتعليم وتذكرة الحافلة وقائمة الهاتف ومستحقات الكهرباء والمياه وكل مستلزماتنا.

إذ أن المال لا يأتي من مصدر سحري، وليست ميزانية المجتمع إلا إنتاج افراده فقط، إن النجاح في هذا الأمر يعنى أن انسانا جديدا قد بنى نفسه وفق أسس المجتمع الجماهيري الجديد.


عالم جديد

ان عصر الرقيق لا يمكن أن يكون قد انتهى ما دمنا نرى حتى يومنا هذا عشرات الملايين من الأجراء الذين يسحقهم ارباب العمل، النائبين عن الاقطاع، إن العبيد الذين يعانون ظلم أسيادهم ، ويخضعون في ضروريات حياتهم لغيرهم، ليسوا إلا طبقة واحدة مستمرة البقاء لم يتغير فيها إلا اسمها ليصبح في عصرنا (العمال الأجراء)، حتى إذا قضي ذات يوم على الأجرة وتحرر العمال من جورها. أمكن يومئذ القول بأن هذه الطبقة قد انتهت.

بعد كل ما قدمناه، يحق لنا أن نتساءل بجدية إلى أين تقودنا الأطروحات العلمية في الكتاب الأخضر؟

اذا بني هيكل المجتمع الانساني وفق النظرية الجماهيرية وتكيفت النشاطات الاقتصادية بمقتضى ذلك، بحيث أصبحت كل النشاطات الاقتصادية من أجل إشباع الحاجات، وقام افراد المجتمع الجماهيري بنشاطات اقتصادية أشبعت حاجاتهم.. فأى لون تكون علاقات الأفراد ببعضهم في ظل هذا المجتمع؟

كيف تشكل المثل والقيم الاجتماعية وكيف تتم مراعاتها؟! كيف يكون .نظام الأسرة ونظام التعليم وقضية الدين؟

إن ذلك كله سيكون جديدا بلا شك وتكون صعوبته في انه جديد، ويختلف جذريا وكليا عما يسود الان حياة البشر المعاصرين.

ان المجتمع الجديد.. سيكون صورة جديدة لا عهد للانسان بها، ولقد حدثنا التاريخ عن الماضى وعن المجتمع البدائي بالتحديد، حيث كانت الأسرة تحرث الأرض وتزرعها، وتربي فيها الحيوانات لتستخدم أصوافها وشعرها وجلودها، وتحقق من خلال ذلك اكتفاءها الذاتي. إن كل أسرة آنئذ كانت تنتج طعامها وملابسها وبيوتها ذاتيا، بل تجد في يدها ما تتفضل به من الفائض على الضعفاء وعابري السبيل وغير ذلك مما تجب مراعاته وفق مفاهيم ذلك المجتمع البدائي.

وإذا تجاوز البشر ذلك المجتمع البدائي، وتكون مجتمعنا المعاصر على أنقاضه، فان حياتنا ستكون لها صورة مختلفة فيما لو نجح مجتمع عصري في القيام بنشاطات اقتصادية يتماثل غرضها مع المجتمع البدائي فى أغراضه الاقتصادية. فكيف يكون شكل مجتمع عصري تكتفي فيه الأسرة ذاتيا؟

هل يحتاج بلدية ودولة؟ وأن تكون لهذه الدولة حدود مفتوحة أو مغلقة؟

وكيف يكون شكل هذا المجتمع إذا كانت بقية العالم مازالت في وضعها التقليدى من حكومات وجيوش وصراع على مصادر الطاقة؟ بل لنقل أي مصير للعالم، إذا لم يتجه نحو تحقيق النظام الجماهيرى، أي مصير ينتظر الانسان؟! 

إن مفكري الإنسانية ملزمون بإيجاد اجابات لكل معضلة من هذه المعضلات ، وتحويل إسهاماتهم إلى منهج علمي يتلقاه مثقفونا بدل تلك الترهات التى أودت بحياة الانسان إلى الجحيم.. ان هذا هو الأمل الوحيد.

رجوع