قيمة الإنسان
مدخل
هل للانسان قيمة؟
إن قيمة الإنسان في العالم المعاصر تقاس بما يملك.. أي أن قيمة الانسان في العالم المعاصر تقاس بما لديه من مال، فمن يملك مالا وفيرا، ارتفعت قيمته ومن كان فقيرا فقد أية قيمة.
وقضية قيمة الانسان ذات صلة وثيقة بمبحث الاخلاق وموضوع الفنون، وثلاثتها موضوعات تفسيرية اكثر منها أمورا عملية. ولكنها تفسر الجانب العلمي للحياة، كما تفسر تاريخ منطقة معينة لأنها تعتبر تاريخا بشكل من الاشكال وبسبب علاقتها بالتكوين القومي للمجتمع، على أن العامل القومي والعامل الاجتماعي هما محركا التاريخ وأساسا الحركة الايجابية للجماعة الانسانية وهو أمر ذو علاقة وثيقة بموضوع الوحدة القومية للامة.. وبموضوع مواجهتها للتحديات الخارجية والاستعمار.. وهو تفسير علمي يقطع الطريق على قيام الإمبريالية، بدحضه للتفسيرات المادية التي تبرر ظاهرة الاستعمار الجديد وهى ما يحاول النظام القائم على رأسمالية الدولة مقاومتها، ولكنه يقدم بدلا عنها بديلا امبرياليا هو الآخر تحدده الدعوة الى تجاهل العوامل القومية والدينية كأساس لحركة الاجتماع الإنساني.
انه إذا كانت الرأسمالية قد وصلت في استغلالها وهيمنتها الى مرحلة عالمية، بحيث تعاملت مع الاقتصاد العالمي كما لوكان ملكا خاصا بها، مقتصرا على الاستجابة لمتطلبات نشاطها الخاص، محققة ما عرف بالامبريالية الدولية، فان أطروحة الاممية هي بكل موضوعية امبريالية جديدة.
فحين نناقش موضوع الاممية دون أن ننحاز عاطفيا لأنفسنا أو لغيرنا، ونتعمق بجرأة في مناقشة قضايا كالاممية الدينية أو السياسية أو الاقتصادية، فأننا نصل إلى أن الأممية هي شعار إمبريالي.. يحقق إمبريالية جديدة بدلا عن تلك المتعارف عليها في السابق..
فالتوسع الامبريالى هو عدم احترام حدود الغير.. الجغرافية والقومية والدينية.. بقصد تحقيق مكاسب لا يمكن تحقيقها إلاعلى نطاق أوسع. فالرأسمالية تزدهر حين تقوم المؤسسات الرأسمالية بعمليات استغلال واسعة النطاق تستولي خلالها على ثروات الشعوب دون اهتمام بأديانها أو أعراقها أو حدودها الجغرافية.
ولقد كانت الحجة التي تقدمها الرأسمالية بين يدي عدوانها على الشعوب، إن الشعب الذي يمتلك ثروة ولا يستطيع استغلالها لمصلحته، يجب عليه أن يسلمها للقادرين على استغلالها من الرأسماليين. بل أن الرأسمالية وصلت في ذلك الى أبعد مستوى حين طرحت ان الرأسمالية النشطة لا يمكنها ان تراعى أصحاب الثروات الكسالى العاجزين عن عمل شئ مفيد، فقد كانت قناعات هتلر والنازية أن الكرة الأرضية هي للجميع، ولامبرر لاحد ليحتفظ لنفسه بأي قطعة منها لأي سبب من الاسباب القومية أو الدينية أوغيرها. فالشعب الألماني النشط من حقه أن يتوسع حتى حدود مجاله الحيوي، دون مراعاة أي شيء آخر. انه من السذاجة ان يتفرج شعب نشط على شعب آخر غير مستغل لثروته دون ان يكتسحه ليستغل الثروة التي لديه. أي أن الأقوياء يجب أن يبسطوا نفوذهم على حساب الضعفاء. ليتجاوز الاستغلال حدود الامة الواحدة فينشأ بذلك استغلال أممي متجاوز للحدود القومية والدينية والسياسية وهو ما اصطلح على تسميته بالإمبريالية.
كذلك فإن تجاهل القوميات والأديان بالدعوة الى الأممية، سيؤدى الى تدمير حضارات وفناء كيانات.. ونشوء صراعات بغض النظر عن المضمون الفكري للدعوة الأممية دينيا كان أم غير ديني، فالأممية بعدم احترامها للحدود بين القوميات والديانات والكيانات السياسية ستخلق وضعا يسوده قانون الغابة حيث يسيطر الاقوياء القادرون على الضعفاء العاجزين ليفرضوا معتقداتهم ويحققوا مصالحهم دون مراعاة لأي شيء آخر.
ان ذلك لا يمكنه أن يكون وضعا سليما لانه ليس وضعا طبيعيا، وبالتالي فهو يؤدى الى انهيار كامل للسلام في العالم، على نقيض ما يدعيه دعاة الأممية باعتبارها نظرية للسلام بين البشر بحجة أنها مضادة للامبريالية فحين تتهدد مصالح شعوب وأمم وأديان.. فإن أصحاب هذه المصالح القومية والدينية سيقاتلون من أجل مصالحهم وضعا امبرياليا يسعى الأقوياء لفرضه عليهم.. مما يخلق وضعا متأزما ومتفجرا بين أولئك الذين تضررت مصالحهم وتهددت كياناتهم وبين الذين أضروا بهم دون أن يلتفتوا الى المبررات النظرية التي تبرر هذا الوضع. حيث ان تلك المبررات لا تعدو كونها محاولة لتبرير امبريالية جديدة.
لقد وجب ان نضع نظرية جديدة تخلص العالم من العسف والاستغلال، فتؤدى الى انعتاق حقيقي للشعوب في كل مكان، فتنتصر الحرية بممارسة الديمقراطية الشعبية المباشرة لتتحقق آدمية الإنسان، دون ان نقع في براثن امبريالية جديدة.
فنحن لا ندعو الى اقامة جماهيرية واحدة في العالم كله، ولا نعتقد أن ذلك يمكن أن يتحقق، ولكننا ندعو الى حياة الحرية باقامة جماهيرية في كل مكان على حدة .
فبحسب التقسيمات الجغرافية والسياسية على الخريطة العالمية التي رسمتها قوى الاستغلال والدكتاتورية والإمبريالية يمكن أن تقام جماهيريات شعبية ليحل عصر الجماهير بدلا عن عصور الدكتاتورية والفاشية، فيحل بحلول عصر السلام الحقيقي بين البشر، حيث ستختفي الجيوش النظامية وسيختفي الأفراد الذين يصدرون الأوامر للجيوش باجتياح أراضى الغير واجتياز حدودهم.
وتسود الروح الديمقراطية الشعبية فيحل الشعب المسلح بدلا عن الجيش النظامي. ان الشعب المسلح بطبيعة الحال سيكون دفاعيا على نقيض الجيش النظامي الذي يعد أداة مناسبة للهجوم بفعل حجمه المحدود والمناسب للحركة والمجهز للقيام بعمليات التعرض العسكرية التي تشجع على الغزو والاحتلال، واجتياز حدود الغير بالعدوان.
ولعل جميع عمليات تهديد السلام وجميع أنواع العدوان قد اقترفتها الجيوش بكاملها، دون ان نسمع عن شعب خرج من أرضه بالكامل ليغزو شعبا آخر ويحتله. سوى في فترة الهجرات التاريخية المعروفة، حيث تترك بعض القبائل أراضيها القاحلة لتتجه الى حيث الخصب، وهى مرحلة انتهت الا من ذاكرة التاريخ.
مؤشرات أساسية :
إن الأخلاق والفنون وبالتالي قيمة الإنسان تتأثر بشكل مباشر بأمور ثلاثة هامة هي السياسة، والاجتماع، والثورة. ولذلك فهي تختلف كلما خضعت لتأثير عامل منها دون العاملين الآخرين، أو كلما نظر اليها من خلال زاوية من هذه الزوايا المختلفة. فينبغي لكل منا أن يفهم قيمة الانسان وتلك القيم جميعا عبر كل زاوية من هذه الزوايا، حيث إن جهلها يعد ضعفا يؤدى الى الهزيمة العقائدية والنظرية التي تؤدى بدورها الى هزيمة سياسية واقتصادية وعسكرية. فمن زاوية علم الاجتماع ننظر الى هذه القيم كما هي دون تغيير، فعلم الاجتماع لا يدرس امكانية تغيير هذه القيم ولا ما ينبغي لها أن تكون، وانما يدرسها كما هي متحققة في الواقع المعاش. فهو لا يأتي بجديد وانما يكشف عن الواقع الاجتماعي المتيقن الوجود. وقد يخدع الثوريون الذين يدرسون تلك القيم اجتماعيا اذا لم يكونوا على دراية سياسية وثورية، حيث أن الدراسة الاجتماعية لا تخلص إلى أصدر أحكام قيميه بحق الظواهر الاجتماعية موضوع الدراسة، فليس لها ان تحدد الخير والشر أو الحلال والحرام. فذلك ليس مجال علم الاجتماع الذى يتناول الموجود بشكل طبيعي دون أن يغيره، فهو يدرس الظواهر التي ربما تكون قد شهدت تطورات سلبية حتى فسدت كما تفسد المادة المتخمرة، ثم تنحرف بعد ذلك نتيجة تخمرها.
ان قيمة الإنسان في مجتمع استغلالي متخلف أو تسيطر عليه الرأسمالية والطبقات الاجتماعية الرجعية العميلة لها يكون أساسها المال..
حيث النظام الاجتماعي في مجتمع كهذا يقرر بأن قيمة الانسان تكون بقدر ما لديه من أموال، فيعترف هذا المجتمع بكل طرق السلب والنهب والاستغلال للحصول على المال بغرض احراز قيمة.
فحين يسود قانون الغاب فان أكثر الأفراد قيمة هو الاكثر شراسة ووحشية وبالتالي، فان الغش والسرقة واستغلال جهد الآخرين تعد أمورا مباحة في مثل هذا المجتمع ليصل متقنوها الى احتلال حيز من القيمة يناسب ذكاءهم وحذقهم وقدرتهم على جمع أكبر قدر من المال.
ان الذين يعيشون في مجتمع يمارس الدجل السياسي يعرفون أن أكثر الافراد قدرة على الكذب والنفاق والديماغوجية هم الذين يصلون دائما الى السلطة، لانهم يجيدون القفز على جميع الحبال دون أن يصابوا بأذى.
ولقد عرفنا في العالم الثالث اندثار حركات التحرر الحقيقية وبروز مجموعات من عملاء الاستعمار الأوروبي مكانها، دون أن تفسر تفسيرا عميقا كيف استطاعت حركات رجعية أن تصمد حتى النهاية لتقطف ثمارا لم تبذل جهدا في إنباتها أو إنضاجها، ولكن الذين عاصروها أو علموا حقيقتها أدركوا ان الحركات الرجعية ليست سوى مجموعات من العملاء المنافقين أشبه بقطيع من القطط يسيرون على الحبال أو يتسلقون الجدران، دون أن يحملوا في جرابهم شيئا من القيم الوطنية أو التقدمية، ودون ان تسمع يوما بأن قطا قد انكسر لانه تسلق جدارا.
ان علم الاجتماع لا يصنع أخلاقا، ولكن الواقع الاجتماعي يصنع أخلاقه، ومن هنا فان أوضاع الاستغلال قد جعلت سلب جهد الآخرين واستغفالهم وقهرهم عملا أخلاقيا مقبولا في ظلها، يصرح به القانون وتسمح به السلطات السياسية وتوفر جهدا خاصا لحمايته.
ان كل شيء في مجتمعات الاستغلال يعلن عن مستغل فاللافتات والشوارع والمباني تعلن عن وجود السارقين والناهبين من شركات الإنشاءات والمقاولات والمتاجر التي تملك رخصا قانونية في مزاولة استغلالها..
ان أي مواطن في العالم يمكنه أن يقرأ مئات الاعلانات التي تعد أخلاقية ومشروعة في عالم الاستغلال من تلك التي تدل على بيوت للايجار أو اراض للبيع أو مواصفات لخادمة منزلية، مقرونة بهاتف صاحب الاعلان أو صندوق بريده حيث لا يضطره شيء الى الاختفاء والتستر، فالمجتمع لا يعتبر مثل هذه الإعمال مشينة أخلاقيا أو ملاحقة قانونا!..
ان كل مجتمع استغلالي في العالم المعاصر يتضمن طبقة من المستغلين والسراق الذين يستحوذون على ثرواته المادية وممتلكاته وامكاناته كلها ثم يحددون علاقة ظالمة مجحفة تربط بينهم وبين باقي الأفراد، دون أن يشعروا بحرج أخلاقي أو يواجهوا بمقاومة قانونية من حيث إن ذلك كله مباح ويعد مقبولا من الناحية الاخلاقية المعمول وفقها من جميعمجتمعات الاستغلال. بل انهم يعلنون عن مشروعية ذلك وقانونيته بحمل رخص تسمح بممارسته.
ان قيمة الإنسان في عالم الاجتماع لاتنبئنا عن قيمته الحقيقية التي كانت له قبل فساد المجتمعات الإنسانية أو تكون له بعد تدمير هذه المجتمعات. كذلك فان السياسة لا تقدم لنا صورة حقيقية عن قيمة الإنسان. كما تعتبر الفنون في مجتمعات الاستغلال عن الوقع الموجود أوهي تكون صورة عنه وتقوم بتبريره من خلال جميع النماذج الفنية المتاحة.
أما علم السياسة فهو لا يقدم الاشياء كما هي ولكنه يتدخل فيها بغرض استغلالها سياسيا، فتناوله للظواهر الاجتماعية تناول مزيف، إذ ليس من مصلحة السياسة أن تقدم الأمور على حقيقتها وخاصة تلك التي تضر بالسياسة فتكيفها لمصلحتها بتزييفها وهكذا تتعرض جميع الظواهر الاجتماعية لتزييفها من قبل السياسة. فالحكومات تمارس تزييف الظواهر الاجتماعية لاستغلالها سياسيا فتخدع أفراد المجتمع بأن تغييرا ايجابيا يجرى احداثه في المجتمع في الوقت الذى تقوم فيه بعمليات تزييف سياسية للواقع الاجتماعي بقصد توظيفه لمصلحة النظام السياسي القائم.
ان خلطا تحليليا يحدث بين التزييف السياسي للواقع الاجتماعي وبين البحث العلمي في الظواهر الاجتماعية. سببه فقدان المنهج الفقهي الثوري الذى يضع مواصفات التحليل العلمي للواقع الاجتماعي، فبغياب الفقه العلمي الثوري سيطر منهج التزييف السياسي في التحليل الاجتماعي واستطاع ان يطيل عمر النظم الدكتاتورية الفاشية المعادية للجماهير الشعبية، بخلط الرؤى الفكرية وتفريغ النضالات الشعبية من محتواها الثوري الجذري المتجه نحو تدمير الهياكل الاجتماعية الظالمة التي بنتها القوى الاجتماعية الرجعية في المجتمعات الإنسانية..
وهكذا فان وجود ثوار يتسلحون بفقه ثوري علمي هو ما يجب ان يتوافر قبل كل شيء لإلغاء المنهج التزييفى في تفسير الظواهر الاجتماعية، وكذلك لكشف زيف التركيبات الاجتماعية المعادية للتقدم والحرية.. وزيف الديمقراطية التقليدية المعاصرة.. ذات المفهوم الشكلي في التعامل مع المشكل السياسي عموما ومع حرية الافراد بشكل خاص. ولكشف حقيقة الدكتاتورية والعسف والاستغلال والتجهيل في المجتمعات الإنسانية المعاصرة..
فيقومون بتحريض الجماهير على الثورة ضد هذه المجتمعات الرجعية لتدميرها واقامة مجتمع جماهيري. خال من الظلم والتخلف.
ان فقها ثوريا علميا تدرسه مجموعة من الثوار ويعلمونه للجماهير هو أخطر ما يواجهه النظام الاستغلالي العالمي المعاصر، لانه العامل الوحيد الذى يخلق مواجهة حادة مع هذا النظام لينسفه نسفا جذريا لمصلحة الشعوب ولمصلحة الحرية والتقدم والاشتراكية.
ان القوى الاجتماعية الرجعية تدافع عن الواقع الإجتماعي القائم وتحافظ عليه لتبرر عن طريقه وجودها ومصالحها. فهي تتخذه حجة وسندا لمقاومة وإجهاض عمليات التغيير التي تستهدف مصالحها،كما أنها تستخدمه أداة قمع للقوى الثورية بهدف منع حدوث عمليات التغيير الثوري، بل تجريمها باعتبارها عملا غير شرعي يترتب عنه انهيار النظام الاجتماعي كله وبالتالي انعدام الامن والنظام، ويستدلون على ذلك بأن المجتمع كوحدة واحدة، لا يمكن المساس بطرف فيه دون تأثر الاطراف الأخرى. وقد بنى المجتمع بشكل كلى متماسك بحيث ان أي عملية تبديل مهما كانت بسيطة تجر وراءها انهيارات متتالية لا تلبث ان تغير المجتمع تغييرا كليا.. ولذا فان القوى الاجتماعية الرجعية لا تسمح حتى بأجراء تغيير جزئي في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة لأنها تعرف ان ذلك سيؤدى الى تغييرات أعمق في جميع البنى الاجتماعية ذات العلاقة بذلك.
فهم لا يسمحون إطلاقا بإجراء تغيير في علاقات الملكية مثلا مهما كان التغيير بسيطا..ان الرجعية تستخدم القيم والأخلاق السائدة بالمجتمعات الرجعية لتبرير العلاقات الظالمة التي تستغل من خلالها الإنسان المسحوق في هذه المجتمعات.. كما أنها تقاوم القيم الجديدة والعلاقات العادلة باعتبارها سلوكا اجراميا مضادا للمجتمع وقيمه وعلاقاته.. وباعتبارها بدعا ضالة.. وضارة بالحياة الاجتماعية والمصالح العامة..
وتستخدم الرجعية الدين أيضا، وفق مصلحتها لتحارب عن طريف عمليات التغيير، مثلما اختلفت مقولتها التي نسبتها الى النبي محمد عليه السلام ونصها "كل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في النار...
فإذا كان النبي محمد عليه السلام قد قال ذلك فإنما يريد البدع الدينية الضارة بالعقيدة، كإسقاط الصلاة أو الصوم أو الجهاد في سبيل الحق أو غير ذلك من التبديل والتحريف كأن يبتدع مبتدع بأن الصلاة مرة واحدة في اليوم أو ان الصيام عشرة أيام في السنة عوضا عن شهر "الا ان القوى الاجتماعية الرجعية تحرف الكلام عن مواضعه وتسخره لاستعباد البشر وتثبيت الاستغلال بالقضاء على مبادرات الافراد والجماعات في التخلص من الواقع الظالم الذى يعانون منه، فهم يحاولون ان يجعلوا من عبارة كهذه ينسبونها الى نبي أو يزجونها في كتاب من كتب الاديان المختلفة نصا قطعيا بتجريم أي محاولة للتحرر من هيمنة الرجعية واستعبادها وقهرها للبشر، فبتجريمهم لكل جديد، تصبح الحرية جريمة والاشتراكية جريمة والجماهيرية جريمة بينما تستمر القوى الرجعية في ابتداع كل جديد لممارسة اجرامها التاريخي في قهر الإنسان، فهي تزيف الأديان وتشوه القيم وتخلق علاقات الظلم دون توقف، موهمة الناس بأن ذلك كان هكذا منذ القدم، لتغيب وعى الجماهير فتشل بذلك قدرتها على مواجهة الاستغلال.
ان الرجعية تدافع عن مصالحها الخاصة وتنطلق في ذلك من اعتبار الواقع الاجتماعي الذى خلقته قاعدة صحيحة يجب احترامها ولا يحق لاحد اختراقها.
وتقوم في ظل ذلك بتزييف الواقع الاجتماعي أيضا واستغلاله لمصلحة نظامها السياسي، فالرجعية لا تكتفي فقط باستغلال الواقع الاجتماعي بل أنها تقوم بعملية فرز لجزئيات هذا الواقع الاجتماعي، حيث تبقى على الاجزاء المناسبة لمصلحتها، وتزيف الأجزاء الأخرى بما يناسبها.
ان عمليات الفرز هذه وعمليات التزييف التي تواكبها لجزئيات الواقع الاجتماعي، تعقبها دائما تعديلات معينة في الجانب الاجتماعي توحي بشكل سطحي لغير المثقفين ثوريا بأن تغييرات هامة تحدث على الصعيد الاجتماعي تهيئ لحركة تقدم اجتماعي ملائم لطموحات الجماهير ولعل أنظمة تعارف الناس على وصفها بالتقدمية هي ام مناسبة لذلك من حيث انها خبيرة في تزييف الواقع الاجتماعي واستغلاله لمصلحة نظمها السياسية، لاطالة بقائها في السلطة.. حيث أنها تتحدث عن الاشتراكية وترسيخ واقعا رأسماليا.. تتحدث عن الحرية وتفرض نظاما قمعيا دكتاتوريا.. وتحلل الديمقراطية الشعبية وتفرض نظام الأقلية المسيطرة في كل شيء.
إن أنظمة متعددة في العالم الثالث ترفع لافتة تقدمية لا تقوم ألا بعمليات تزييف الواقع الاجتماعي المعاش لملاءمته مع مصالحها السياسية، وما عمليات التبديل والتعديل التي تجريها لا الا تلفيقات وترقيعات للثغرات التي تكتشفها في جدار نظامها السيـاسي، محاولة سدها.. وتعويضها، للحيلولة دون تغييرها جذريا حيث ان عمليات التغيير الجذري إذا وقعت فستقذف بهذه النظم السياسية الى دائرة النسيان خارج ذاكرة الإنسان.. في الوقت الذي تسعى فيه هذه الأنظمة السياسية الى إطالة عمرها فقط تمشيا مع تركيبتها الأساسية التي تتحد في انها انظمة تلفيقية زيفت الواقع الاجتماعي، وسرقت اللافتات الثورية بغرض استغلالها مصلحيا.. فليست أنظمة ثورية ولا تقدمية، وانما وجدت نفسها مضطرة بحكم المصلحة أن ترتب عمليات استغفال متكررة، وان تخوض عمليات تزييف وخداع الجماهير فركبت التقليعة التقليدية التي تقتضي تبنيها قضايا الجماهير المسحوقة والمضطهدة.. وإذ كان الأمر كذلك لم يبق امامها الا ادعاء الثورة.. والاشتراكية.. والتقدمية.
حتى تلك الأحزاب التي وصلت الى السلطة باسم دكتاتورية العمال سعت الى التزييف السياسي بتصويرها لاوضاع العمال المسحوقين بقيود الأجرة تصويرا مخالفا للحقيقة حيث تدعى بأنها حررتهم من استعباد الرأسمالية لهم.. وعلى بقية عمال العالم أن يلحقوا بعمال الدول التي أقيمت فيها دكتاتورية البروليتاريا حيث هيمن العمال على كل شيء وسيطروا على الدولة.
ان التزييف هنا يكمن في تصويرهم لاستيلاء احزابهم على السلطة بأنه انتصار للعمال وتحرر لهم من ربقة العلاقات الظالمة وهو أمر لم يتحقق للعمال بعد بسبب تحولهم الى عبيد لارباب عمل جديد، ومعاناتهم ذل الاجرة مجددا، وسيطرة الحزب الواحد على الدولة وتسييرها لمصلحته السياسية متسترا بالمصطلحات الديمقراطية والشعبية.
القيمة المادية للانسان :
إن الأخلاق والفنون وقبل ذلك قيمة الانسان ليس من المتيسر تفسيرها علميا بالاعتماد على علم الاجتماع أو السياسة من حيث إن علم الاجتماع يقدمها كما لو أنها لا تقبل التغيير في حين تقدمها السياسة كما لوأنها في صورتها المثلى التي لا يجب ان تتجاوزها.
وإذا كانت الأخلاق هي دائما إباحة السائد وتحريم الجديد نتيجة سيطرة القوى الاجتماعية الرجعية على المجتمع، وتوظيفها له وفق مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، فإن الفنون هي التعبير المباشر وغير المباشر عن الوضع السائد بطريقة فكرية تستهدف تبريره وترسيخه وتقاوم تغييره.
إن قيمة الانسان في المجتمعات الرأسمالية سواء تلك التي تخضع لنظام رأسمالية الطبقة أو تلك التي تطبق نظام رأسمالية الحكومة هي قيمة مادية بحثة لا اكثر.ففي نظام رأسمالية الطبقة تقدر قيمة الأفراد بما يملكون من ثروات وعقارات.
أما في نظام رأسمالية الحكومة فان قيمة كل فرد تقاس بما يقدم من جهده الخاص لمصلحة الحكومة. فبقدر إنتاجه تتحدد قيمته، بما يشبه خلية نحل جميع من فيها من الشغيلة يسند اليه دور معين تقدر قيمته بإنتاجه، أي بما يقدم من منفعة مادية للخلية. ولا قيمة لمن لا ينتجون انتاجا ماديا يقدمونه للمجتمع.
وهكذا فان المجتمع الرأسمالي بشقيه، يجبر الأفراد على السعي المتواصل لامتلاك المقدرة المادية بقصد الحصول على القيمة لانفسهم.
ففي نظام رأسمالية الطبقة يسعى كل فرد الى تكديس الملكية بالقدر الذى يستطيع وبمختلف الطرق بما فيها السرقة والغش والارتشاء وغير ذلك من اساليب ضارة بحياة الأفراد والشعوب، تجعل المجتمع كغابة الوحوش، لا مكان فيه لغير الشرسين، الذين يتمكنون من القضاء
على غيرهم بافتراسهم، والاستيلاء على املاكهم وحقوقهم. أما في نظام رأسمالية الحكومة فان كل فرد يسعى الى بذل ما لديه من طاقة ليتمكن من العيش في مجتمع من البشر دون ان يراوده أي نوع من الطموح الإنساني بتغير وضعه اللهم الا ان يعترف المجتمع بانسانيته والا يتم التخلص منه ، بحجة عدم فائدته وانعدام قيمته بسبب انه لم يساهم في تكديس الإنتاج ليتمكن المجتمع من ان يصل الى وضع يقدم فيه كل فرد ما يستطيع من جهده لينال من الثروة حسب حاجته.
وهو وضع كان كافيا لالهاب حماس الشغيلة للتنازل عن اكبر قدر من انتاجهم لمصالح الدولة الرأسمالية لتتمكن من مواجهة الطبقات الرأسمالية الغنية والمالكة للقدرات التقنية المتفوقة، والمنظمة في احلافها الاقتصادية والعسكرية. والناهبة لثروات الشعوب في جميع القارات.
حيث تحظى مواجهة الامبريالية بالاهتمام كله لأنها النقيض السياسي لنظام رأسمالية الحكومة وهى الخطر الأساسي الذى يتهدده ولذلك فإن الدولة الرأسمالية مضطرة للدخول في برنامج تقشف طويل الامد تتكبد ثمنه اجيال متعاقبة من البشر تقتطع من قوتها واحتياجاتها المختلفة لتجعل المواجهة ممكنة فقط، دون ان يتكدس شيء من الإنتاج، فليس هناك قدر يمكن ان يبقى كفائض ليشكل في النهاية وضع الوفرة ويخلق الرخاء والرفاهية. بل ان العجز مستمر ودائم نتيجة استهلاك الانتاج كله. وحتى لو تضاعف الانتاج أضعافا أخرى، لتبين ان نقصا كبيرا ينبغي تغطيته في تكاليف برامج الدولة العصرية في ظل النظام الرأسمالي بشقيه، فلو اطلعنا على برنامج واحد من تلك البرامج الباهظة كبرنامج الفضاء مثلا أو برنامج تطوير الصواريخ، أو تكاليف العمل العسكري في حوض البحر الابيض المتوسط فأننا قادرون على ان نستنتج منه الأفق الذى لا نهاية له والسراب الذى تتجه اليه اعناق الشغيلة الظامئة لبعض ما يمنونها به من رخاء، وبالتالي استحالة ما تطمح إليه من قيمة فردية وجماعية.
القيمة الاجتماعية للانسان :
إنه إذا لم يكن للانسان الا قيمته المادية، والفائدة التي يمكنه ان يقدمها للمجتمع، فان الطفل العاجز عن تقديم ذلك يكون آنئذ لا قيمة له، لانه لا فائدة له. فالطفل لا ثروة له ولا يمتلك عقارات ولا أرصدة، وليس قادرا على تقديم انتاج مهما كان قليلا، بل انه يحتاج اشد الحاجة الى رعاية مكثفة، ليبقى على قيد الحياة. وبهذا فان الطفل يفقد أية قيمة وفقا للمنظور الرأسمالي بشقيه- رأسمالية الطبقة ورأسمالية الحكومة.
الا إذا تعلل الرأسماليون بان الطفل في واقع الأمر هو نوع من الاستثمار، أي انه مشروع قيد التنفيذ، فهو سيكون يوما ما قادرا على تقديم المرجو منه بالشكل الذى يناسب الطريقة التي اعد بها. وحين تكون النظرة الى الطفل هكذا فانه لا قيمة له الا قيمته المادية وفي هذه الحالة فان عالم البشر- هذا سيتحول الى جحيم حقيقي.. وسيكون الناس جماعة متخلفة حتى إذا قيسوا بالحيوانات في الغابة تلك التي تربي صغارها دون ان تعتبرهم سلعة مربحة. وإذا استطاع أحد ان يتعلل بان الطفل مشروع استثماري، فمن يستطيع ان يقول ذلك في العجزة؟ ان العجزة لا فائدة مادية ترجى منهم لا أجلا ولا عاجلا. فوالدا أي إنسان عندما يهرمان ويعجزان لن يطمع ان يجنى منهما أي فائدة مادية، وهما لا يستطيعان ان يقوما بأي إنتاج يكفيهما. ولكن الإنسان لا يستطيع التخلي عن والديه وأقربائه العاجزين وهو مشدود الى رعايتهم والعطف عليهم والرأفة بهم، انه يرتبط بهم بشكل ما، ويحس بان لذلك قيمة كبيرة. أنها القيمة الاجتماعية للإنسان. ويمكن لأي منا ان يتحدث مليا عن القيمة المادية المرتبطة بالمال والملكية، فيقول ان مالك العمارة ذات العشر شقق، قيمته تكمن في تأجيره لهذه المساكن لعدد من الآسر، يستغلها ويؤجر لها سكنا. ومالك الأرض التي تسع مائة فلاح قيمته تكمن في تفضله على المجتمع بتسخير مائة عبد لديه في أرضه يكدس انتاجهم لمصلحته. و صاحب المركوب قيمته في تفضله على آخرين بحملهم الى وجهتهم أو تأجيره المركوب لهم.. وهكذا يعتبر متيسرا لنا ان نقدر القيمة المادية للإفراد، فصانع الكراسي وصانع الصواريخ وصانع المشددات وصانع الحاسبة الإلية، "وعتالو" المواني، نستطيع ان نقدر القيمة المادية لأي منهم بسهولة ويسر، كما نستطيع ان نفاضل بينهم وفقا لذلك بتحديد الوزن أو الطول أو الثمن لما يقدمونه من فائدة مادية، لكنا لا نستطيع ان نقدر القيمة الاجتماعية لأي فرد مهما كان. فالقيمة الاجتماعية لا يمكن قياسها بالوزن أو العملة أو غير ذلك من المقاييس فهي لا تقيم ماديا. ولعل البحث في تحديد قيمة مادية لها هو متاهة لا يخلص داخلها الى نتيجة مفيدة. غير ان البحث والدرس يجب ان يتناول القيمة الاجتماعية في ذاتها، من حيث اهميتها ومؤثراتها. وهو أمر معقد وهام أيضا، ويحتاج ان يتناوله الباحثون بالدراسة الجادة على ضوء الطرح الفكري الجديد للنظرية العالمية الثالثة.
فوفق منظور هذه النظرية نجد أن قيمة الانسان والأخلاق والفنون مختلفة اختلافا جذريا عما وصفناه آنفا. فليست الأخلاق من منظور ثوري مطابقة للأخلاق من منظور اجتماعي. كما انهما معا لا يتطابقان مع الأخلاق من المنظور السياسي. فالأخلاق اجتماعيا هي تحديد لقيم الواقع الأخلاقية بما هو موجود. والأخلاق سياسيا هي الواقع الاجتماعي المزيف لمصلحة السياسة. والأخلاق ثوريا ترفض جذريا الواقع الاجتماعي الفاسد والتزييف السياسي، دون ان تتجاهل الواقع الاجتماعي.فعلم الثورة يتناول الظواهر الاجتماعية بالتحليل والتفسير ليكشف الفساد الذى اعتراها أو التزييف الذي شوهها، ليصل من وراء ذلك الى القضاء على الجوانب الاجتماعية الفاسدة وتدمير التزييف السياسي الذى افتعلته الانظمة السياسية للمحافظة على مصالحها. هادفا من ذلك الى بناء القيم الحقيقية والصحيحة. التي هي قيم الثورة. ان الذين يدمرون القيم الفاسدة ويبنون قيما سليمة انما يقومون بالثورة ليحققوا القيمة الحقيقية للإنسان، حيث يكتسحون بالثورة كل رواسب التضليل والتزييف السياسي والفساد الاجتماعي الذى تولد عن الاستغلال والعسف. فحينما يتحكم الاستغلال في رقاب الناس وتسيطر مجموعة قليلة على ثروة المجتمع، وتكدسها لحسابها الخاص وتستعملها في البناء والاستثمار، فإن قوانين تلفيقية كقانون الإيجار أو وضع حد ادني للأجرة هو مجرد تزييف سياسي.. وحينما يتمكن الرأسمالي من استخدام العمال لصالحه فان العلاقة بينهما هي علاقة السيد بالعبد، فإذا قدم السيد أجرة لعبيده فانما ليبقيهم على قيد الحياة ليستمروا في الإنتاج لمصلحته، وهذا هو تفسير الأجور في النظام الرأسمالي بشقيه، وبالتالي فان وضع قانون يمنع الفصل التعسفي.. أو يبح التمتع بالعطلات هو مجرد تزييف سياسي للواقع الاجتماعي البشع لتلوينه وزخرفته حتى لا يضر بالنظام السياسي القائم. وهكذا فإن العمل الثوري هو الذى يناط به تدمير هذا الواقع المشوه، ليخلق الوضع الذى تتحقق فيه آدمية الانسان وحريته وكرامته.
ان الفعل الثوري التاريخي الذى هو نقيض التزييف والديماغوجية هو الذى يحقق القيمة الفعلية للانسان بتحرره من جميع القيود التي تحد من حريته، وبالتالي تطمس وجوده الفعال.
الخلاصة :
ان الخضوع للواقع الاجتماعي مرفوض ثوريا مهما تشبث الناس به، أو اعتادوه. فإذا كان الواقع الاجتماعي فاسدا فإن الثورة كعمل إرادي يتدخل عمدا لتغيير الأوضاع القائمة وتكييفها وفق مصلحة جميع أفراد المجتمع. وهو نقيض ما تقوم به السياسة كفعل ارادى ايضا يتدخل لتزييف الظواهر الاجتماعية وتكييفها وفق مصلحة النظام السياسي القائم. وفي ظل ذلك تعكس الفنون الواقع الاجتماعي الذى زيفته السياسة وتكون صدى له. ان السياسة لا تسعى الى التبشير بشيء جديد ولا يهمها أن تحرض الناس على شئ مفيد، ولكن همها كله ينصب على المحافظة على الواقع السياسي، وتزييف الواقع الاجتماعي بما يحقق ذلك. ان الرجعية تحافظ على الواقع الاجتماعي القائم وتبرر استمراره، بقصد مقاومة تغييره. حفاظا على مصالحها. ولكن الثورة تكتشف فساد النظم القائمة وتقدم البديل العلمي عنها، وتقوم بتحريض الناس على تدمير الواقع القائم وتبشرهم بالبديل. ويقوم الفن الثوري بمهمة كشف التزييف السياسي والفساد الاجتماعي والسعى الى تدميره وبناء الحياة السليمة للمجتمع ببناء مجتمع جديد، حر وسعيد. إن الفن الثوري ليس صدى عن الواقع القائم ولكنه تمرد عليه وتجاوز له، وتحقيق عملي لتكامل الفعل الثوري ونضجه بتجسيده فنيا. إن الفن الثوري هو نقيض للديماغوجية من حيث انها اثارة وتزييف يقصد من ورائها استغفال الجماهير الشعبية، في حين يكون الفن الثوري معلما للجماهير يبشرها بغذها المشرق ويحدد لها طريقها الى النصر، بتقديمه الأمور على حقيقتها، وبتقديسه للقيمة الحقيقية للانسان.