ثروة المجتمع كيف توزع؟




المقدمة:

تعتبر ثروة المجتمع ملكا لكل أفراده، ويحق لكل فرد أن يستغل هذه الثروة للانتفاع بها في حدود جهده الخاص دون استخدام غيره بأجر أو بدونه وفي حدود إشباع حاجاته.

إن نصيب كل فرد من هذه الثروة وحقه فيها يتساوى مع نصيب غيره من أفراد المجتمع، كما أن نصيب الفرد يزداد وينقص بزيادة أو نقصان حجم هذه الثروة. وهذه هي القاعدة العامة التي ينبغي أن تحكم توزيع الثروة بين أفراد المجتمع مهما كان نوعهم، ومهما كانت طبيعة تخصصاتهم، يستوي في ذلك الجاهل والمتعلم، فلا يزيد نصيب كل فرد ولا ينقص إلا بزيادة أو نقصان حجم هذه الثروة، ولا يوجد أي مبرر منطقي يمكن أن نستند إليه في استثناء أي فرد من الخضوع لهذه القاعدة.

فإذا كانت إمكانات المجتمع من الاسمنت والحديد و الطين والماء تكفي لبناء ستة عشر ألف منزل مثلا، وكان عدد أفراد المجتمع ستة عشر ألف نسمة. فإن القسمة العادلة تحدد نصيب الفرد من هذه الامكانات بمنزل واحد. فإذا حدث أن وجدنا أحد الأفراد قد أخذ منزلين من هذه المنازل، فإن ذلك يعني أن فردا من أفراد المجتمع قد بقي بدون منزل. وسواء حدث هذا نتيجة لتراخي وكسل هذا الفرد او نتيجة لنشاط الفرد الآخر فإن ذلك لا يعد مبررا مقبولا لهذا الوضع. إذ لا يجوز لأي فرد أن يأخذ من إمكانات المجتمع نصيبا أكبر من نصيب غيره.. و لا يحق بالاضافة إلى ذلك لأي فرد أن يقوم بنشاط اقتصادي بغرض الاستحواذ على كمية من ثروة المجتمع اكثر من القدر الكافي لإشباع حاجاته. فإذا كان المنزل الواحد كافيا لاشباع الحاجة فان ذلك يعني أن استحواذ إنسان ما على منزلين يعتبر تعديا على حاجة إنسان اخر من ثروة المجتمع.

وإذا كانت القاعدة التي يؤسس عليها نظام المجتمع ونشاطه الاقتصادي تسمح بالاختلال في عملية التوزيع، فإن هذه القاعدة تعتبر فاسدة ظالمة، كما أن التشريع الذي يستند إليها يعتبر باطلا يجب إلغائه لأنه يعطي شرعية لعمل باطل من أساسه.


الثورة والقواعد الظالمة

إن الثورة تقتضي اكتشاف القواعد الظالمة التي تحكم حياة المجتمع و تدميرها وبناء قواعد سليمة عادلة يتحرك المجتمع على أساسها.

إن مهمة الثورة اذن، هي تدمير القاعدة الفاسدة التي تسمح بان يتعدى إنسان ما على نصيب غيره من ثروة المجتمع، واستبدالها بقاعدة سليمة، تصبح فيها العملية الحسابية، التي أشرنا إليها سابقا، هي أساس القسمة الصحيحة التى لا يمكن أن يعترض عليها إنسان عاقل.

إن القوانين التي تعمل على أساسها معظم المجتمعات الانسانية في وقتنا الحاضر هي قوانين باطلة، ذلك لأنها تسمح لفرد ما بأن يأخذ أكثر من حقه، وبذلك تكون العملية الحسابية في ظل هذه القوانين غير سليمة وغير عادلة.

وتلك القوانين تمكن قلة من أفراد المجتمع من احتكار الثروة والسيطرة عن طريق هذا الاحتكار على بقية الأفراد وتسخيرهم. وهذا الوضع هو نفسه الذي مكن بعض الليبيين قبل إعلان أن (الأرض ليست ملكا لأحد) من تشييد العمارات وترك الأكواخ لسكنى بعض آخر.

ولم يكن هذا الوضع ممكنا لولا وجود القانون الظالم أو القانون الاستغلالي الذي يبيح لشخص واحد أن يأخذ من إمكانات وثروة المجتمع -التي هي ملك لكل أفراده- ما هو أكبر من نصيب غيره ليبني بها العمارات ويؤجرها لأصحاب الحاجة. هذا الوضع هو المسؤول عن تقسيم أفراد المجتمع إلى مالكين وغير مالكين.


المنطق السليم يدين قواعد الاستغلال

إن المنطق السليم الذي يدين تلك القوانين الفاسدة ويثبت وجود الظلم والاستغلال فيها يقضي بالغاء تلك القوانين.

إن القوانين الظالمة إذا سادت في المجتمع الانساني فإنها تحدث نوعا من الانحراف في نفسية الانسان وفي تقييمه وحكمه على الأمور. فإذا أتينا إلى الانسان الذي يملك منزلين وسألناه عن كيفية حصوله على المنزل الذي يعتبر زائدا على حاجته، وهل له الحق في الاحتفاظ به، علما بأن المنطق السليم يقضي برد الشيء إلى من يحتاج إليه، فيقول: إنه حصل على المنزل الثاني بمجهوده ونشاطه، وإنه لم يكن كسولا كغيره، ولذلك فإن من حقه أن يحتفظ بهذا المنزل، وإذا حللنا هذا القول لمعرفة ما يستند إليه من شرعية وجدنا أن هذا التحليل كالآتي:

إن هذا الرجل وجد من المال، الذي تكدس في جيبه نتيجة لعمله ونشاطه، ما يكفي لشراء مواد البناء ودفع أجرة العمال، وبذلك تم استخدام العوامل الانتاجية لبناء المنزل الثاني. وإذا ما اطلعنا على الوثائق والعقود المبرمة بينه وبين العمال وجدناها صحيحة وفقا للقانون، فالقانون لم يضع حدا يقف عنده هذا الرجل فلا يتعداه، وإنما أطلق له العنان لكى يبني ما يشاء من المنازل إذا كان في مقدوره أن يحصل على الأموال اللازمة لذلك. كما أن القانون أعطى هذا الرجل حافزا إلى الاستغلال حيث سمح له بتأجير ما زاد عن حاجته من المنازل. ولكننا إذا تساءلنا من أين أتى ذلك الرجل بالنقود؟. وهل له الحق في أن يمتلك ما يشاء منها؟ وجدنا أن المنطق السليم يقودنا إلى إثبات أن ذلك الرجل قد قام بعملية سرقة لأشياء لم تكن من حقه.


الثروة والنقود

إن النقود، باعتبارها مقياسا للقيم، لا تخرج عن كونها في النهاية أموالا أو ثروة. وحيث إن الثروة هي من حق كل أفراد المجتمع، مهما كان مصدرها ومهما كانت قيمتها ويفترض أن يأخذ كل فرد منها حصة تساوي حصة غيره من افراد المجتمع يستخدمها ليشبع حاجاته منها، فإن الذي يأخذ حصة أكبر من حصة غيره من هذه الثروة يعد سارقا لغيره لأن الزيادة التي يأخذها تؤثر بالنقص في حصة الآخرين.

إن ذلك الرجل، وإن كان يعد نفسه غير سارق من الناحية الواقعية. لأنه لم يفعل ما يناقض القانون، فهو يعتبر منطقيا سارقا كما هو واضح من تحليلنا لنشاطه أو (شطارته). وإذا أردنا أن نتعمق في تحليل وفهم الكيفية التي تمكن بها ذلك الرجل من ممارسة السرقة المشروعة (قانونا) وجدنا أن ذلك قد حدث نتيجة لاختلاف في قيمة ما يأخذه وما يعطيه، حيث إن هذا التقييم لا يخضع لنفس الأساس، وهو وضع لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل ظرف احتكاري فالنقود التي تكدست في جيب ذلك الرجل أعطته قوة احتكارية، وأصبح عن طريق هذه القوة قادرا على المساومة، التي تعد مشروعة بحكم القانون، وحيث إن كفة الميزان في ظل قانون المساومة تميل إلى الطرف الأقوى، فان التقييم سوف يكون في صالح الرجل الذي يملك المال.

لنفترض أن ذلك الرجل الذي يملك المال قد أحضر عشرة عمال، واتفق معهم على بناء منزل. ولنفترض أن القيمة الحقيقية لساعة العمل هي دينار واحد وأنه يكفي لبناء المنزل عمل هؤلاء العمال لمدة مائة يوم بمعدل عشر ساعات فى اليوم، وأن هذه القيمة تساوي نصيب الرجل من ثروة المجتمع الذي يعادل نصيب الآخرين. ولنفترض أن العمال قد وقعوا ورقة تثبت عدم وجود سرقة وفقا للقانون في مقابل ما يتقاضونه من أجر. فاذا كان الاتفاق بين هذا الرجل والعمال عادلا، فإن العامل الواحد يستحق عشرة دنانير يوميا لأن كل عامل يعمل لمدة عشر ساعات في اليوم، وفي هذه الحالة ينفق رب العمل ما قيمته عشرة آلاف دينار في بناء المنزل ولا يبقى معه أي فائض (أو ربح)، ولن يتمكن بالتالي من بناء منزل اخر. وتكون الحسبة صحيحة، حيث حصل العمال على حقهم كله، وأخذ رب العمل حاجته وهي المنزل. إلا أن ذلك لا يحدث في ظل القواعد الظالمة، و القوانين الفاسدة، فالوضع الاحتكاري لرب العمل يسمح له باستغلال العمال وفرض شروطه عليهم، وبالتالي يتمكن رب العمل من الاتفاق مع العمال وفقا لقانون الاستغلال، على أن يدفع لهم خمسة دنانير يوميا مثلا، مقابل عملهم، ويعني ذلك أنه تمكن من أخذ نصف مجهود العمال لصالحه، وبالتالي يكون مجموع التكاليف التي يتحملها في بناء المنزل هو خمسة آلاف دينار، ويبقى معه خمسة آلاف دينار أخرى تكفي لبناء منزل آخر يضيفه الى المنزل الأول. وحيث إنه لا يحتاج إلى هذا المنزل شخصيا فإن هذا الرجل سوف يقوم بتأجيره لمن يحتاج إليه من أفراد المجتمع الذين لم يتمكنوا من أخذ نصيبهم من ثروة المجتمع. إن رب العمل، وهو يحقق هذه النتيجة، قد قام مسبقا بحسبة تمكن بمقتضاها من تشغيل العمال عشر ساعات يوميا مقابل ما قيمته خمس ساعات فقط، وبذلك سرق مجهودهم، ولولا هذه السرقة لما استطاع بناء البيت الثاني الذي اعتبره ربحا مشروعا له لا يصح أن يعترض عليه أحد.

إن المنزل الثاني يعتبر، في حقيقة الأمر، حقا مشروعا للعمال الذين ساهموا بمجهودهم في إنشائه، ووجود هذا المنزل في حوزة رب العمل قد تم على حساب نقص حاجة هؤلاء العمال، وبالتالي فإن مثل هذا الرجل قد أخذ حقا هو في الحقيقة ملك لغيره.

هذه النتيجة حدثت لأن العلاقة السائدة في المجتمع جعلت العمال أجراء عند رب العمل، ومكنته من سرقة مجهودهم وأموالهم. فما هو المبرر الذي يمكن أن يعطى لهذه العلاقة الظالمة بين رب العمل والعمال؟

لا يوجد أي تبرير مقبول لهذه العلاقة الظالمة، ولا تصبح هذه العلاقة مشروعة الا إذا أصبح الاستغلال نفسه مشروعا.


الوعي والثورة

إن العمال حين يفهمون معنى تلك العلاقة الظالمة، وحين يدركون أن جهدهم قد سرقه رب العمل فإنهم سيقومون بالثورة مطالبين بحقهم في الانتاج وبان يكونوا (شركاء لا أجراء). وهذا الوعي سوف يجعل العمال قادرين على تطبيق هذه المقولة.

إن الحاجة هي التي دفعت العمال للتنازل عن حقهم فى الانتاج لرب العمل وقد يفعل العامل ذلك مضطرا وهو يعلم أن رب العمل يقوم باستغلاله وفقا للعلاقة الظالمة التي يقننها المجتمع لمصلحة أرباب العمل، ولكن هذا الوضع نفسه سيدفع العامل للثورة في يوم من الايام لانه وضع ظالم، ومن حق هذا العامل أن يثور.

إن الذي يجرى في جميع بلاد العالم تقريبا هو عبارة عن عملية ظلم واستغلال وسرقة، وهو وضع بالاضافة إلى كونه غير مقبول منطقيا، تدينه جميع الأديان والشرائع السماوية وتحرمه. فالقرآن الكريم يقول: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وهو بذلك يدين كل العلاقات التي تكون نتائجها أكل الأموال بالباطل، وليس هناك من باطل أكبر من أن يأخذ الانسان الذي ينتج أكثر من غيره ما هو أقل من غيره. وليس هناك من باطل أكثر من أن ياخذ الانسان الذي لم يعمل نقود الذي قام بالعمل ليبني بها منازل يؤجرها لصالحه.

إن أي إنسان يخضع لعملية الاستغلال هذه لابد له من أن يثور، فالثورة تتولد نتيجة للشعور بالظلم، ولذلك يصح القول بان (الظلم هو مفجر الثورة).

إن العلاقات الظالمة ليس لها من رد فعل إلا الثورة، ولذلك يمكن التنبؤ في أي مكان من العالم يسود فيه الظلم والعلاقات الظالمة بأن الثورة فيه آتية لا ريب فيها.

إن إدانة العلاقات الظالمة، والمطالبة بتحطيمها والقضاء عليها لا يعني كما قد يفهم سطحيا، أن نقضي على طرف من أطرافها جسديا ولا يعني ذلك في نفس الوقت أن يظلم الطرف الذي قام بعملية الاستغلال، كأن يفصل من عمله أو يؤخذ منه منزله الخاص به. إن ذلك إذا حدث، يكون عبارة عن إبدال العلاقة الظالمة بعلاقة أخرى ظالمة، وهذا بطبيعته لا يقضي على الظلم، فالظلم لا يغير بالظلم.

إن ما يطلب من رب العمل -الذي تعدى على حق غيره- هو إرجاع ما أخذه ظلما. فلا يجوز لأي إنسان أن يحتفظ بنصيب أكبر من نصيب غيره من ثروة المجتمع لأن ذلك إذا حدث فإنما يحدث نتيجة لقسمة غير عادلة.

إن العلاقة الطبيعية العادلة تقتضي أن يقف كل فرد من أفراد المجتمع عند حده، وأن لا يعتدي على حدود غيره. وعندما يعمل كل فرد من أفراد المجتمع وفقا لهذه القاعدة تكون القسمة عادلة، ولا يأخذ الفرد أكثر من نصيبه العادل.


صور الاستغلال

إن ما وضحناه آنفا هو صورة من صور الاستغلال، ولكن الاستغلال ياخذ صورا شتى وأشكالا متعددة. وعملية السرقة يمكن أن تحدث في أي شكل من أشكال الاستغلال.

إن كل نشاط اقتصادي يقوم بدافع الربح هو نشاط استغلالى يمكن عن طريقه أن تختل نتيجة قسمة ثروة المجتمع على أفراده، ولذلك كان الاعتراف بالربح اعترافا بالاستغلال. إن قوانين الاستغلال تسمح للأفراد بمزاولة التجارة الخاصة، وتسمح لهم بتحقيق الأرباح من هذه الحرفة.

إن كل من يلمس في نفسه الرغبة والقدرة على مزاولة نشاط تجاري بداع الربح له الحق في ظل قوانين الاستغلال، في أن يتقدم إلى الجهات المختصة فى الدولة، وأن ياخذ ترخيصا بذلك، وبموجب هذا الترخيص يكون من حقه قانونا أن ياتي بالسلع من مصادرها، داخلية كانت أو خارجية ، ويبيعها باكثر مما تحمل في سبيل الحصول عليها من نفقات، محققا بذلك أكبر ما يستطيع من ربح. وحين يقبل المستهلك على شراء السلع فانما يفعل ذلك لأنها تعتبر حاجة من حاجاته التي لا يستطيع أن يستغنى عنها. وهو مضطر في سبيل الحصول عليها لان يدفع القيمة التى يطلبها التاجر ثمنا للسلعة. كما أن المستهلك لا يعلم تكلفة السلعة الحقيقية التى تحملها التاجر. وحين يقوم المستهلك بالمساومة محاولا تخفيض ثمن السلعة أحيانا، فانما يفعل ذلك منطلقا من شكه في عدالة القيمة التي يطلبها التاجر ثمنا لهذه السلعة. ولكن التاجر انطلاقا من موقفه الاحتكاري الذي مكنه من الاستيلاء على حاجة المستهلك ينجح غالبا في تحقيق الأرباح، وهذا هو الذي يفسر بقاء التاجر تاجرا. فاذا انعدمت الأرباح ليس أمام التاجر الا أن يتخلى عن متجره أو دكانه باحثا عن نشاط اخر يقوم به لكي يشبع حاجاته كغيره من بقية أفراد المجتمع.

وكثيرا ما يحاول التاجر اقناع المستهلك بشتى الطرق بان ما يدفعه ثمنا للسلعة هو القيمة العادلة التي لا يمكن مقارنتها في السوق بأية قيمة أخرى لنفس السلعة أو ما يشبهها، وأن بضاعته التي يقدمها إلى المستهلك تختلف عن البضاعة التي يقدمها غيره وقد يقوم التاجر أحيانا، مستندا إلى جهل المستهلك باوضاع السوق، بمحاولة لاقناعه بان ما يدفعه ثمنا للسلعة هو أقل من قيمتها الحقيقية، وبذلك يوهم المستهلك بأنه هو الرابح وليس التاجر نفسه، وهي محاولة للتغطية والتمويه.

إن تحليل النشاط الذي يقوم به التاجر يوصلنا إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي أن التاجر قد قام بعملية استغلال لحاجة المستهلك، وقد تمكن عن طريق هذا الاستغلال من تكديس الأموال في جيبه، فالأموال التى أصبحت في حوزة التاجر لم تكن إلا نتيجة للزيادات المتراكمة عن طريق الربح الذي تمكن التاجر من تحقيقه لاستغلال حاجة المستهلك. ولم يكن المتجر أو الدكان إلا مصيدة يستخدمها التاجر ليصطاد بها المستهلك ، ولولا حاجة المستهلك التي وجدت في هذه (المصيدة) لما دخلها المستهلك ليكون لقمة سائغة أو فريسة للتاجر. ولم يكن المستهلك حرا أو مختارا عندما دخل إلى تلك (المصيدة) لأن حاجته إلى السلعة جعلته مضطرا للدخول.. و(فى الحاجة تكمن الحرية).

إن النشاط الذي قام به التاجر يعتبر بطبيعته نشاطا غير منتج لأنه يعتمد على انتاج الآخرين. فالتاجر لا يبيع انتاجه وإنما يبيع إنتاج الآخرين. إن التاجر عبارة عن وسيط بين المنتج والمستهلك. ولقد استطاع هذا التاجر، باكتشافه لهذا الدور الاستغلال ، أن يتمكن من تكديس الاموال وأن يأخذ نصيبا من ثروة المجتمع أكبر من نصيب غيره، دون أن يقوم بعملية انتاج، وبذلك تمكن من الاستيلاء على ما هو أكثر من حاجاته من إنتاج الآخرين فناقض القاعدة الطبيعية التى تقول: (الذي ينتج هو الذي يستهلك) ومن ثم فان ما فعله التاجر هو السرقة بعينها.

إن القوانين التي تسمح بمزاولة التجارة الخاصة هي قوانين تبيح مزاولة السرقة،والمجتمع السليم ينبغي ألا يسمح ببناء تلك (المصائد) التى تستخدم وسيلة لاصطياد المحتاجين.

إن المحتاجين ينبغي أن تتحرر حاجاتهم كي يصبحوا أحرارا، ولا يكونوا مضطرين لدفع قيمة لحاجاتهم أكبر من قيمتها الحقيقية.

والمستهلك حين يدرك طبيعة النشاط الذي يقوم به التاجر وطبيعة العلاقة الظالمة بينه وبين التاجر سوف يتمرد على هذه العلاقة قائما بالثورة، مطالبا بتحطيمها لتقوم مكانها علاقة جديدة تجعل من التجارة خدمة عامة يكلف بها البعض ليقدمها للمجتمع، بحيث لا تكون مصدرا من مصادر الاستغلال، وبذلك تقام الأسواق العامة التي توفر السلع لمن يحتاج إليها بتكلفة إنتاجها. إن كل نشاط اقتصادي من شأنه أن يؤثر في النتيجة النهائية للقسمة الطبيعية، بحيث يؤدي إلى سيطرة إنسان على نصيب أكثر من غيره من ثروة المجتمع هو عبارة عن نشاط اقتصادي لا يتمشى مع القواعد الطبيعية التي ينبغي أن تكون سائدة في مجتمع سليم، وهذا النشاط بطبيعته سوف يؤدي إلى إحداث خلل في إمكان إشباع الأفراد لحاجاتهم من ثروة المجتمع.

ولا ينبغي أن يعول في العلاقة الانسانية على قدرة الأفراد على حيازة أشياء هي ليست من حقهم، وإنما على سلامة القاعدة التي تمت على أساسها حيازتها، وهي ما تعطي مشروعية للفرد للاحتفاظ بالاشياء التي وقعت في حيازته، فإذا كانت قدرة الفرد وحدها هي المبدأ الذي يعول عليه في الاحتفاظ بالأشياء أصبح دخول رجل إلى منزلك وسيطرته عليه في أثناء فترة غيابك عن المنزل عملا مشروعا، وصحت ملكية هذا الرجل لمنزلك ما دام قادرا على الاحتفاظ به. ولكن ذلك لا يعد عملا مشروعا لانه جاء نتيجة لقاعدة غير سليمة. فانتهاك حرمة المنزل قاعدة غير مقبولة ولا تعطي أساسا سليما لتكوين نظام اجتماعي مقبول.

إن ثروة المجتمع ينبغي أن تبقى ملكا لكل أفراده ونصيب كل فرد في كل فترة زمنية، من هذه الثروة هو عبارة عن حاصل قسمة هذه الثروة على أفراد المجتمع.

ولا يكون النشاط الاقتصادي نشاطا سليما إلا إذا بقيت هذه النسبة سليمة، ولا تتغير إلا بتغير حجم الثروة أو عدد أفراد المجتمع.

وإذا كانت قدرات الفرد قد مكنته من تغيير هذه المعادلة لصالحه فان النشاط الذي قام به هذا الفرد يعتبر غير مشروع، وذلك لان تغير النسبة السابقة يكون أمرا مستحيلا في غياب عملية السرقة.

إن إمكانات المجتمع ينبغي أن تبقى دائما حاضرة لاشباع حاجات أفراده، ولذلك لا يجوز لاي فرد أن يتعدى على هذه الامكانات. وقدرات الفرد لا تعطيه حقا يتجاوز به حد إشباع حاجاته لان الغاية المشروعة لاي نشاط اقتصادي يقوم به الأفراد هي إشباع حاجاتهم فقط (إذ أن ثروة العالم محدودة على الاقل في كل مرحلة، وكذلك ثروة كل مجتمع على حدة، ولهذا لا يحق لأي فرد القيام بنشاط اقتصادي بغرض الاستحواذ على كمية من تلك الثروة أكثر من إشباع حاجاته لان المقدار الزائد على حاجاته هو حق للافراد الآخرين).

إذا كانت إمكانات المجتمع وثروته تكفي لبناء حجرة واحدة فقط لكل فرد كل من أفراده. وكان أحد أفراد المجتمع يملك أربع حجرات فاننا نجد. في نفس الوقت. من يملك كوخا أو من لا يملك شيئا على الاطلاق، و هذا هو الوضع السائد في جميع أنحاء العالم حتى الان.

إن ربع سكان مصر، مثلا في الوقت الحاضر يسكنون عمارات وقصورا وثلاثة أرباع سكانها الباقين يعيشون في بيوت من طين أو في الأكواخ، في حين أن القصور والعمارات التي شيدت في أهم المدن المصرية هي ملك لكل المصريين بمن فيهم الفلاحون الذين يسكنون بيوت الطين و الأكواخ.

وقد كان هذا الوضع نفسه هو وضع الليبيين، حيث كان عشرهم يملك العمارات والدارات الفخمة، وكانت بقيتهم تعيش في الخيام وفي الأكواخ وفي المدن القديمة، علما بأن المواد التي شيدت بها تلك العمارات والدارات هي ملك الليبيين، وأن لكل فرد منهم حصته فيها.


نزع الملكية والتعويض 

عندما نجد وضعا مختلا كهذا الوضع، ونجد من يملك منزلين أو ثلاثة منازل، ومن يبحث عن منزل يستأجره لانه لا يملك منزلا لسكناه، فليس هناك إلا تفسير واحد لهذا الوضع وهو أن من يملك منزلين قد أخذ حق من لا يملك وأنه بذلك قد أخذ أكثر من نصيبه من ثروة المجتمع، ويصبح من حق المجتمع أن ينتزع ما كان زائدا على الحاجة، لأن ما زاد على الحاجة قد تكون من هذه الثروة التي هي حق لجميع الأفراد. وحين يفعل المجتمع ذلك لا يكون ملزما بتعويض من يملك أكثر من حاجته، ما دام الذي انتزع. هو حق للآخرين، لان التعويض لا يكون سليما إلا إذا كان من حق الفرد أن يحتفظ بالشيء الذي تم انتزاعه.

إن الخلل في توزيع ثروة المجتمع هو نتيجة لسرقة حاجات الآخرين. وهذا يعتبر عاملا من العوامل الني تهدد وجود من سرقت حاجاتهم، وهو وضع بالاضافة إلى ذلك يؤدي إلى عبودية إنسان آخر. فالذي يملك حاجتك يتمكن من السيطرة وفرض شروطه عليك، وهو فى كل لحظة قادر على تهديدك بانتزاع هذه الحاجة. وبذلك تغدو غير حر لان حياتك أصبحت مهددة وتعيسة، فالانسان لا يكون حرا إلا إذا تحررت حاجاته من سيطرة الآخرين. إن المنزل والملبس والمأكل والمعاش، كلها تعتبر حاجات ضرورية للانسان ولابد له من أن يمتلكها ملكية مقدسة. وحين يملك الانسان ما زاد على حاجته من هذه الأشياء فان ذلك يعني حرمان الآخرين منها، ويحق للمجتمع عندئذ انتزاعها منه.


نقل ملكية الأشياء

إن الارث والوصية والهبة والبيع والشراء وغيرها من وسائل انتقال الملكية تبقى صحيحة ومشروعة ما بقي المبدأ الذي تقسم على أساسه ثروة المجتمع بين أفراده صحيحا.

إن تعيين حق أفراد المجتمع في ثروة المجتمع لا يعني إلغاء الارث. ولكن قضية الارث تصبح في ظل هذا المبدأ قضية إدارية بحثة تنبع من شريعة المجتمع، وهو ما يدخل في إطار تطبيق النظرية العالمية الثالثة، ولكن المبدأ الذي يتبع في التطبيق ينبغي أن يستند إلى حق الافراد في إشباع حاجاتهم من ثروة المجتمع، وهم يتساوون في هذا الحق. ولذلك لا يحق لفرد أن يشبع حاجاته على حساب حاجات الآخرين، ولا يحق لاي شخص أن يحتفظ باكثر مما يحتاج إليه.

إن ما تطرحه النظرية العالمية الثالثة هو عبارة عن حلول جذرية للمشاكل التي تتعرض لها المجتمعات الانسانية، وهذه الحلول تستند إلى القواعد الطبيعية، وذلك لان هذه القواعد الطبيعية، هي المقياس والمرجع والمصدر الوحيد في العلاقات الإنسانية.

رجوع