الجدل وقوانين الصراع
جدلية الصراع
لقد كان للتجارب الانسانية فى مضمار الكفاح من أجل الحرية والتقدم الفضل الأول في صياغة مجمل الأفكار الدقيقة والشاملة التى احتواها الكتاب الأخضر. فهو يعتبر حلا أكيدا للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من حيث إنه نتاج جدلي للمعاناة التاريخية التي كابدها الناس عبر العصور في هذه الحياة.
لقد أنتج الناس أفكارا عملية وأخرى نظرية فى أثناء معالجتهم لمشكلات الحياة اليومية التي وجدوا أنفسهم فى مواجهتها، ثم ما لبثوا أن طوروا أفكارهم هذه باخرى أفضل منها، أعمق وأشمل.
وهكذا ينتج عن تراكم المعلومات وتطور الفكر قدرات جديدة على استيعاب المشكلات، وفعالية ملحوظة في معالجتها، وباعتبار أن الفكر إنجاز مادي لا يصدر عن فراغ كأي مادة، فان لأفكار الكتاب الأخضر مصدرها الواسع والغني في نضال البشر عبر الحقب من أجل تطوير وسائلهم لايجاد حياة أفضل و أرقى وأسعد.
(وهكذا أنتجت التجارب التاريخية تجربة جديدة كتتويج نهائي لكفاح الإنسان من أجل استكمال حريته وتحقيق سعادته بإشباع حاجاته ودفع استغلال غيره له ووضع حد نهائي للطغيان، وإيجاد طريقة لتوزيع ثروة المجتمع توزيعا عادلا).
ولا يملك الناس أمام هذه التجربة الجديدة إلا التسليم بعمليتها وصدقها فهي تلح على عقولهم إلحاحا شديدا يتزايد كل يوم، ويعصف بكل رغبة في مقاومتها وإنكار صحتها، لأنها تطور طبيعي لحياة الإنسان يفرض نفسه وفق قاعدة جدلية واضحة مؤداها أن الصراع بين المتناقضات مستمر دون توقف حتى تترسخ العلاقة السليمة التي يضعها الإنسان ويقبلها.
وحيث إن العلاقات التى تسود العالم هي علاقات خاطئة غير قابلة للبقاء بسبب اصطدامها مع طموحات الإنسان، وبسب رفضه لها رفضا جذريا يؤدي حتما إلى صراعه معها. وهكذا يوجد الصراع فى اللحظة التى توجد فيها علاقات ظالمة لا يقبلها الناس. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى ظهور حل.
إن إهدار حق طرف في المجتمع وممارسة الهيمنة عليه. أو محاولة طرف في المجتمع الاستئثار بالامتيازات المتاحة هي قواعد اجتماعية خاطئة تثير الصراع بين أطراف اجتماعية متناقضة المصلحة وبالتالي متناقضة الإرادة.
كما أن محاولة مقاومة التطور الاجتماعي وكبت إرادة التغيير وكبح نوازع الابداع تعد قواعد اجتماعية ظالمة وخاطئة تدفع إلى نشوب صراع لا ينتهي إلا بانتهائها، وترسخ بديلها الذي يقبله المجتمع مقتنعا بصحته.
ومن هنا يتضح لنا أن حدوث الثورة. وتحقيق عمليات التغيير التي تليها ليسا إلا حلا لمشكل ينجم عن وجود علاقة جدلية بين ارادات بشرية متناقضة اندفعت إلى الصراع فيما بينها بهدف القضاء على أحدها وإفنائه ليفسح المجال للآخر على حسابه.
إن تفجر الصراع ضد القواعد الظالمة في المجتمع البشري ليس شبيها باشعال عود الثقاب يتقد لحظة ثم ينطفئ إلى الأبد، بل إنه يتقد أبدا حتى في تلك اللحظات التي يتخيل فيها المراقب أن الصراع معدوم استنادا إلى ملاحظة مظاهر الهدوء التي تسود مجتمعا يرزح تحت وطأة القواعد الظالمة. فالناس لا يقبلون الظلم ولا يخضعون له ولكنهم لا ينفجرون في وجهه كل لحظة وإنما لذلك قانونه وقواعده العلمية التي تجب دراستها بتمعن ودقة.
إن معطيات عالميه وتاريخية أدت إلى صياغة النظرية الجماهيرية في الكتاب الأخضر فتحقق الحل النظري الذي سعى الانسان عصورا طويلة من اجل الوصول إليه، والذي بظهوره اعتبر المجتمع الجماهيرى نفسه على هذه القاعدة نتيجة جدلية لوجود علاقات ظالمة تسود الحياة الانسانية أدت إلى صراع فكري وعملي انتج في نهاية مطافه الحل الطبيعي المطلوب. ولقد انصب العمل العلمي في الكتاب الأخضر على استخلاص النتائج واستنتاج القوانين العلمية من مخاض انساني تاريخى امتد منذ بدء الخليقة حتى اليوم الذي صدر فيه الكتاب الأخضر فظهرت مقولاته وتحليلاته كحصاد تاريخى لموسم من المعاناة والتجارب والمجهودات التي بذلها الانسان في مجالات حياته المختلفة، وفي ميادين نشاطه المتعددة، تراكمت فوق بعضها حتى أوجدت وضعا قابلا للتغيير بحسب عدد من المعطيات التي تشكل أسبابا كافية لإفراز نتيجة منطقية صحيحة هي ما نسميه (الحل الجدلي) للمعضلة موضوع الصراع.
إن الرجعية والتقدمية يتناقضان جذريا شكلا ومضمونا، فكلاهما يعتنق أسلوبا علميا في التحليل يختلف عن الآخر، وكلاهما ينتهج اتجاها عمليا منافيا للاخر.
ففي حين تدافع الرجعية عن الاستغلال وتحاول الحفاظ على الركود العلمي بالقضاء على الحيوية الفكرية وبتدمير الحرية، فتتجه بذلك اتجاها يدعم التخلف والجهل والعسف، وينحو بالمجتمع منحى تراجعيا يقاوم التغيير والتطور، فان التقدمية تقاتل من أجل العدل والمساواة وتحاول حث المجهودات الانسانية من أجل تحقيق ما يجب أن يكون عليه الوضع الأمثل الجدير بالانسان، بالقضاء على الاستغلال، ومقاومة التخلف والجهل والعسف، وتنحو بالمجتمع الانساني منحى تطوريا تصاعديا يدعم التغيير إلى الأحسن ويحقق الطموحات الانسانية في الحرية والسعادة.
ومن هنا يصطدمان نظريا وعمليا على شكل مؤثر تخوضه إرادتان متناحرتان جدليا يؤدي في النهاية الى زوال الوضع القائم وظهور الحل. وعلى هذه الوتيرة يمكن قياس جميع الظواهر التاريخية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومعرفة نشوئها وتلاشيها، ومعرفة أسباب رسوخها أو فنائها. ففي العالم المعاصر حيث تسود علاقات الظلم والتخلف والرجعية يبرز تناقض عميق بين عدد من الارادات يدفع إلى ارادة صراع يحتدم كلما اشتد الوعي بالواقع لدى الناس.
وفي مرحلة عليا من الوعي يظهر الحل. ويصبح تحقيقه مجرد قضية إمكان. فإما أن يتحقق برغبة الجميع وتسليمهم لإرادة التغيير وتقبل الوضع الجديد، وإما أن يفرض الوضع الجديد نفسه بالثورة التى تحدث في ظل هذا الوضع بتخطيط وقصد المنفذين الواعين بالأسباب والنتائج.
وحتى لو فشل عدد من المحاولات التي تهدف إلى تطبيق الحل، فان السعي لتحقيقه لا يتوقف ما دام الوعي بضرورته قائما، ويستمر الوعي بضرورته قائما ما استمرت المعطيات الموجبة لذلك فى حياة الناس اليومية.
إن الحتمية فى التغيير جدليا هي القابلية المنطقية لتحقيق الحل الصحيح الذي تتطلبه معطيات الواقع الاجتماعي، أما تحققه فعلا فيخضع لقرار انساني بالتنفيذ غير أن وجود قرار انساني بالتغيير لا يحدث دون توفر الأوضاع القابلة لإحداثه.
وليس أمام أي باحث فى العلوم الانسانية إلا تبيان الضرورة التي تلزم عن الحاجة إلى إحداث بديل للوضع القائم. ويبقى تحقق البديل -مكانا وزمانا- متوقفا على قرار يتخذه الناس مدفوعين بعدد من الضغوطات الفكرية والنفسية والواقعية. ويتبين أن قرار التغيير خاضع لمستوى الوعي والثقافة، وعلى علاقة وثيقة بالظروف الحياتية التي يحياها المجتمع الانساني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
إن التاريخ الانساني يوضح بجلاء تام، أن مراحل تاريخية معينة تطلبت إحداث تغيير في بنية المجتمع، وحين لم يحدث التغيير -بسبب عدم قيام الناس به- لم تنته الحاجة لوجوده، فكان أن تحقق عبر مراحل أخرى أطول، حين توفر له الجانب الانساني من شروط إحداثه.
كما أن مراحل تاريخية أخرى كانت غامضة، لم يكن وضعها جليا بالنسبة لدارسيها، لم يفاجأ أحد بحدوث تغييرات عميقة فيها، حين أدرك دارسوها توفر الشروط اللازمة لإحداث تلك التغييرات الجذرية فيها، وفي مقدمة هذه الشروط توفر الجانب الانساني القابل للتغيير والقادر عليه.
المرحلة البدائية
ولو طبقنا هذه الجدلية وقوانين الصراع على تاريخ العالم لرسمنا لوحة أشد وضوحا لما نعيشه اليوم من علاقات معقدة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نتمكن من خلالها من معرفة نشأة المشكلات التى يعانيها العالم المعاصر وصيرورتها، وما سوف تنتهي إليه مستقبلا من أوضاع سيكون على البشر معايشتها رافضين وراغبين. وأولى هذه المراحل التاريخية ما نسميه بالمرحلة البدائية، فالبداية التقليدية -لدارسي التاريخ- تنطلق دائما من افتراض مرحلة بدائية سماها بعضهم -بكل قطعية لا مبرر لها- (الشيوعية البدائية ) اعتبرت نقطة البدء في التاريخ البشري، غير أن معلوماتنا عن هذه المرحلة تبين أن الجماعات البشرية فيها لم تكن منظمة إطلاقا.لم تنشأ بينها بعد علاقات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية معقدة. أو على الأقل لم توجد علاقات اقتصادية واضحة المعالم . فهي مرحلة بدائية لم يتحدد فيها بوضوح أي نوع من علاقات الإنتاج أو نماذج الاستغلال التي يمكن وصفها بأنها نظام. حتى أن إطلاق اسم (نظام الشيوعية البدائية) أو (الشيوعية الأولى) يعد خطأ في التصور وتجاوزا بعيدا في التحليل لاشك فيه. لا يدعمه إلا الخيال المجرد . حيث إن ظهور تصورات محددة عن الشيوعية أو الاشتراكية أو الرأسمالية أو الفوضوية أو غيرها قد تأخر حتى تنظمت المجتمعات البشرية، وتحددت قوالبها الاجتماعية بوضوح أكثر. نتجت عنه علاقات إنتاج تتحكم في الأفراد والجماعات تفجر الصراع بسببها بين الطبقات فلا ينطبق التصور الذي يقدمه المحللون الشيوعيون عن المجتمع الشيوعي على هذه المرحلة البدائية التي لا يجوز نفي وجودها من الأساس دون دليل علمي، حيث يرسمون صورة واضحة لمجتمع شديد التنظيم، يتمتع بقواعد ثابتة في سلوكياته جملة، ويضع لكل قاعدة منها شروطا، الأمر الذي لا يتوفر في مرحلة بدائية خالية من العمق والتعقيد. مع إمكان التسليم بوجود أساسات ساذجة وأولية للشيوعية أو الاشتراكية أو الرأسمالية أو الفوضوية أو غيرها، يمكن أن نجدها في الحياة البدائية التي عاشها الانسان البدائي تلقائيا دون تخطيط. فقد تكون إحدى الجماعات البدائية عاشت حياة شبيهة بالمشاعية. في حين عاشت جماعات بدائية أخرى حياة تشبه الرأسمالية أو الاشتراكية أو الفوضوية أو غيرها، مع تأكيد أنها أشباه بدائية خالية من القصد والتعقيد. غير أن التاريخ لم يتوقف عند تلك المرحلة البعيدة، بل استمر حتى يومنا هذا في حالات صراع بين متناقضات تزداد تعقيدا كل يوم. وفق جدل يتصاعد هو الآخر بحسب ازدياد تعقد أطرافه . واتضاح تمايزها بعضها من بعض.
وهو أمر يفترض ازدياد الوعي الفكري للجماعات البشرية ممايسهم بشكل مباشر في تأجيج الصراع بين إرادتهم ليفضي به حتما الى حل جديد.
الجدل والتاريخ السياسي
مر المجتمع الانساني بمستويات وعي مختلفة. كان لكل منها شكله السياسي المميز والمختلف عن غيره. فقد قدر لنا أن نعرف من خلال دراستنا للتاريخ السياسي أن البشرية قد عرفت عصورا طويلة من الاستبداد الشخصي الذي يقوم به أفراد، يعتبر الواحد منهم إلها أو نصف إله يتحكم في البشر تحكما مطلقا دون أن يصدر ضده اعتراض ما من أي كان. لقد كان من حق الفرد المستبد إصدار أحكامه وقراراته دون الرجوع إلى أية قاعدة أو قرينة أو دليل باعتباره ظلا لله على الأرض، باعتباره إلها، أو باعتباره أذكى الناس وأحكمهم وأقدرهم وأشجعهم إلى آخر تلك الصفات التي تبرر له اتخاذ قراراته عشوائيا، دون السماح بصدور اعتراضات ضدها، غير أن ذلك صار أمرا سخيفا الان ولم يعد يقنع أحدا، برغم أنه لم ينته، فما زالت مظاهر عصر الاستبداد الفردي ماثلة في كل مكان إلا أنها انتقلت إلى طور جديد أكثر اقناعا. فقد ارتفع وعي الناس قدرا يمكنهم من اكتشاف فساد القاعدة التي تمكن على أساسها فرد واحد من السيطرة على المجتمع، فنشأت المعارضة ضد سلطته غير المحدودة، ولم يكن أمامه من سبيل إلا التنازل عن بعض امتيازاته واختصاصاته، ليتمكن من الحيلولة دون الانفجار الذي قد يفقده كل شىء. وهكذا عرف العالم هذا التطور الجديد الذي يتم فيه اختيار عدد من الأفراد، هم طليعة طبقة قوية لتشارك الفرد الدكتاتور بعض سلطاته. وقد كانت هذه الطليعة عبارة عن مجلس برلماني أو حكومة من حزب طليعي ينجح في الانتخابات، أو جماعة مستشارين يستعين بهم الحاكم المطلق لاسكات الأصوات التي قد تسمه بالظلم والفردية والقمع والدكتاتورية.
إن المرحلة الثانية هذه عبرت عن عصر كان مستهجنا فيه قيام فرد واحد بحكم الجماعة والهيمنة عليها ، فتحايل هذا الفرد على الجماعة بمشاركة نخبة له في بعض امتيازاته ليتمكن من الاستمرار في تسلطه على المجتمع وحكمه للجماهير الشعبية المقهورة بالاستغلال والعسف والتضليل.
غير أن عقل الناس لم يتوقف، وازداد وعيهم بما مكنهم من إدراك حقيقة عصر النخب والصفوة الطبقية، فنشأت المعارضة القوية للحكومة البرلمانية والحزبية، حتى بعد تطورها، لتصبح حكومة جبهوية عريضة يشارك فيها أغلب النخب والصفوة من الطبقات البعيدة في مجتمع العسف و الاستغلال التقليدي المعروف.
فمثلما انتقل وعي الناس من مرحلة الفرد الإله، الى مرحلة النخب والصفوة، تحقق تجاوز هذا العصر الأخير أيضا. ومن مظاهر تجاوزه أن جبهة الحكم تزداد اتساعا وكذلك جبهة المعارضة للحكم. واشتد الصراع بينهما حتى أنهما تزاحمتا على اجتذاب الأفراد العاديين البسطاء في الشارع باستخدام مختلف أساليب الدعاية والاغراء والتضليل، مما زاد آليا في وعي الجماهير الشعبية التى لم تعد تكتفي بمجلس النواب، أو بجبهة حكم عريضة من عدد كبير من الأحزاب. ولم تعد تكتفي باستشارتها في مهرجانات الاستفتاء التقليدية التى تقام وتنفض بغرض تمرير البرامج المعادية لها فى ظل ضجيج مطبق من الدعاية والدجل والتزييف.
إن الجماهير الشعبية في جميع أنحاء العالم تخرج الان من بيوتها لتحتج وترفض هيمنة جبهة أو جبهات على السلطة. وسيستمر رفضها ويزداد يوميا حتى تصل بنفسها إلى السلطة. لقد كان النظام السياسى في المرحلة الأولى ملكيا أو امبراطوريا ليتناسب مع التقديس الكبير لشخصية الملك أو الامبراطور التي يكتسب الناس مبرر وجودهم في خدمتها والتفاني فى الاخلاص لها.
أما في المرحلة الثانية فقد كان النظام السياسى جمهوريا ليتناسب مع سيطرة جمهور من الطبقات القوية على السلطة.
يتكون من نخبة أو طليعة أو حتى عدد من النخب والطلائع الطبقية التي تحكم الشعوب حكما ديكتاتوريا يمارس العسف والاستغلال.
أما في المرحلة الثالثة فإن وصول الجماهير الشعبية إلى السلطة وسقوط كافة الأدوات التسلطية عن كاهلها يؤدي إلى قيام الجماهيرية كنظام سياسي يناسب تحرر الجماهير وسيادتها على كافة مقدراتها المادية والمعنوية.
ان التاريخ السياسي يعلمنا بان كثيرا من رواسب المراحل السياسية السابقة ما زال حيا فى حياة الناس. فحتى يومنا هذا ما زلنا نرى أفرادا مقدسين يحكمون بنظرية التفويض الإلهي على الرغم من انقضاء العصر الذي كان الناس يصدقون فيه وجود ميزات خاصة تتوفر في أشخاص الحاكمين دون سواهم. كما أن عمر النخب والصفوات قد ولى هو الاخر، غير أن مظاهره مازالت باقية كرواسب سياسية واجتماعية يصعب على الناس التخلص منها بسبب استخدام القمع من أجل حمايتها والحفاظ عليها من قبل النخب الجمهورية المعادية لجماهير الشعبية.
بل إن كثيرا من مظاهر العصرين -الفردى والنخبوي- قد تم دمجها بحيث أنتجت نظما خليطا من سيطرة الفرد ومظاهر العصر البرلماني والانتخابى. فالملكية البرلمانية والجمهورية الديمقراطية أو النيابية، وحتى تلك الأنظمة الفاشية التى توجهها عصابات أو أفراد مجانين.. تتركب جميعها -كانظمة سياسية- من هيكل سياسي موحد فيها جميعا ومن قواعد ومبررات سياسية واحدة. غير أن ذلك لن يحول دون سقوطها تحت أقدام الجماهير الشعبية.
الوضع الراهن
فلو طبقنا هذا الجدل المتصاعد على الأوضاع السياسية العالمية الراهنة لوجدنا أن الظروف التى خلقت النظام الرأسمالي هي التي أدت الى شطر نصفه ليصبح نظاما ماركسيا، غير أن غالبية البشر يقعون خارج النظامين معا، فدول العالم الثالث -وهي دول نامية يتركز فيها ثلاثة أرباع البشرية- ليست رأسمالية ولا ماركسية في غالبيتها على الرغم من انضواء بعضها تحت طائلة أحد النظامين. ولقد كافحت شعوب هذه البلدان كفاحا طويلا ضد الاستعمار الرأسمالي -الذي كان يحتلها ويمارس استغلالها واستعبادها- من أجل مطلب سياسي هو الاستقلال عن المحتل الاجنبي، وحين حازت استقلالها السياسي اكتشفت التناقض بين إرادتها وإرادة الاستعمار الرأسمالي فتحكمت في علاقتها به قوانين الصراع التي تعمل في ظل وجود المتناقضات على مسرح واحد.
ويمكن وصف ذلك جدليا بان هذه البلدان من خلال صراعها مع الاستعمار الرأسمالي صارت الرأسمالية مرفوضة لديها بسبب معاناتها الشديدة من جرائها. ولكنها في نفس الوقت لم تقبل الماركسية كحل لمشكلاتها. وهي حين أرادت التحرر من الاستعمار الرأسمالي دأبت على تطوير أوضاعها برفع مستوى المعيشة لسكانها بسلسة من الإجراءات الإصلاحية التي تقرب الفوارق ببن الطبقات . وقد أدى ذلك الى قيامها بتأميم المؤسسات الأجنبية التي تعمل في بلادها. كالشركات والمصارف وغيرها وهو الأمر الذي يعد تكملة للاستقلال السياسي. ويفهم خطأ بأنه توجه اشتراكي، في حين أن التأميم ليس سوى تحرير الممتلكات الوطنية من السيطرة الاستعمارية الأجنبية.
وهو وضع لا علاقة له بالاشتراكية، حيث إن الشركة المؤممة قد تقع في يد الرأسمالية المحلية فردا كانت أو دولة لتعمل على استغلال الكادحين مثلما كانت قبل تأميمها.
إن إجراءات إصلاحية مثل هذه ليست حركة تغيير جريئة تؤدي إلى ازالة النظام الطبقي القاهر الجاثم على صدور الكادحين، ولكنها مجرد تلفيق يحاول التقليل من حدة التفاوت الصارخ بين الطبقات.
وتنتهج هذه السياسة الإصلاحية التلفيقية دول تسمى نفسها اشتراكية، إذ تعلن عن هويتها إعلانا، في حين تنتهج أساليب تلفيقية متجنبة الحلول الجذرية الصحيحة لمشكلاتها، وعازفة عن الانضواء إلى أحد القطبين العالميين الكبيرين اللذين يشكلان طرفي المعادلة الجدلية، حيث يقف الرأسماليون في أقصى اليمين مرتكزين على قواعد ثابتة تستند إلى مبدئهم العتيد (دعه يعمل.. دعه يمر) الذي يعني حرية الاستغلال والكسب بلا حدود. وحيث يقف الماركسيون في أقصى اليسار التقليدي مرتكزين على مذهب عملاق من الناحية البنيوية يمنحه وجود الرأسمالية قوة، فهو يكتسب مبرراته من وجود نقيضه، فيتمكن من تقوية نفسه و تحدي خصمه. وإذ يشكل النقيض خطرا على نقيضه فانه في نفس الوقت يشكل مبررا لوجوده. ويكتسب النظامان جاذبية وبريقا من استنادهما الى قوة اقتصادية وعسكرية عملاقة في العالم، حيث يتقاسمان الكرة الأرضية بحلفيهما العسكريين السياسيين اللذين بنيا بغرض إدارة صرع يحتدم على مستوى العالم كله. وإن الخوف والقلق يخيمان على البشر من جراء احتمالات تفجر الصراع بشكل اشد. وتخشى الأنظمة الإصلاحية التلفيقية خصوصا مغبة تفوق أحد الخصمين. حيث العالم كله في ظل العملاقين مما يدفعه إلى الاقتراب من أحدهما للاحتماء به ودرء خطر الاخر.. وهو الأمر الذي لجأت إليه دول عديدة من دول العالم الثالث. وجدير بالملاحظة أن أنظمة إصلاحية عديدة من العالم الثالث تذوب بفعل هيمنة النظامين وجاذبيتهما وبفعل افلاسها العقائدي، فيصبح بعضها رأسماليا وبعضها الآخر ماركسيا، حيث تلجأ إلى الأخذ بمقولات جاهزة في محاولة منها للحفاظ على بقائها واستمراريتها التي لا تستطيع ضمانها بحل تلفيقي مؤقت سرعان ما يفقد بريقه ومبرراته لتجتاحه الثورة قاذفة به إلى عالم العدم والنسيان.
إنه المصير المحتوم لأنظمة العالم الثالث تلك التي تحاول أن تصمد للضغوط الموضوعية فلا تتكيف، بل تتمحور في أحد طرفي المعادلة الجدلية. وتستمر تلفق اقتباساتها منهما معا دون أن تكون طرفا بديلا منهما، أو دون أن تشكل نقيضا جدليا مكافئا في الصراع لهما. وهكذا يتحدد الصراع جدليا بين نقيضين لينتج من خلاله الحل الثالث الكامن جدليا فيهما. ويتولد هذا الحل، إضافة للجدل القائم بين النقيضين كنتيجة لعدد من المقدمات التي تكون أطراف المعادلة الجدلية. وانطلاقا مما تقدم، يصبح بامكاننا رسم لوحة واضحة للعالم المعاصر، وتوضيح الأوضاع الراهنة المعاشة بصورة علمية جدا.
ولان الرأسمالية تناقض الماركسية تبقى مشكلات الانسانية المزمنة تبعا لذلك دون حل. فلو استعضنا عن ذلك التناقض بالمعادلة الآتية:
(2x2=؟) نرى أن فيها طرفين متناقضين دون تبيان النتيجة التي لا يمكن أن نكون اعتبارية هنا. فنتائج المعطيات المتوفرة في هذه المعادلة أصلا لابد أن يكون (4) بدلا من إشارة الاستفهام المعبرة عن الغموض والتي قد تعنى أي شيء، فالنتيجة لا يمكن أن تكون الا (4) إذ لا مجال للخيال أو الوهم أو الافتراض.
ولا مجال أيضا لأن نتساءل موضوعيا عن مسالة الاختيار العلمي والعقائدي بين الرأسمالية أو الماركسية أو الحل الثالث، لأن ذلك يعد جهلا بالمنطق الصحيح الذي ترتب على القانون الجدلي، حيث إن حتمية تحليل الأفكار الرأسمالية والماركسية لابد أن تنتج لنا (الكتاب الأخضر)، إذ من غير المفيد اقتصار التحليل على مساوئ النظامين ومزاياهما بشكل أكاديمي بحث دون محاولة الوصول إلى نتيجة هذا التحليل التي ستكون حتما المجتمع الجماهيري.
إن الرأسمالية نظام يقوم على (الحرية) بمبدئه البراق (المنافسة الحرة) التي تستخدمها حجة في وجه النقد الموجه ضدها.. فالرأسمالية ترى أنها قد منحت الحرية للضدين معا. فهي لم تجبر العبيد على العبودية، ولكن القواعد الطبيعية أدت إلى انتصار السادة عليهم. فالغنى والفقر مسالة طبيعية، والأغنياء هم أولئك الحذاق والأذكياء الذين تمكنوا من استغلال غيرهم وانتهاز الفرص التي أتيحت لهم. والفقراء ليسوا مجبورين جبرا على الخضوع لهم ويمكنهم المقاومة، لعل القواعد الطبيعية ترحمهم فتحمل بعضهم إلى مصاف أسيادهم الذين قد يهبط بعضهم إلى مصاف العبيد.
إن النظام الرأسمالي يتبجح كثيرا بحرية مزعومة منحت للضدين معا. فهو لا يتدخل في أسعار السلع التي بجب أن تحددها القواعد الطبيعية. فقاعدة العرض والطلب والندرة والوفرة هي المسؤولة عن مثل هذه المسألة وإن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي يلحق أضرارا بالغة بالنظام الاجتماعي ويشل عمل القواعد الطبيعية.
غير ان أي محلل يستطيع أن يصل بسهولة الى ان مبدأ (المنافسة الحرة) يقود إلى نتيجة حتمية واحدة، هي سقوط غير القادرين على المنافسة وبقاء القادرين عليها، أي ظهور نظام طبقي يسوده الرأسماليون الذين تحكموا في المال. وأخضعوا لمشيئتهم أولئك الذين خسروا المنافسة كعبيد لمصلحتهم، فانهم يسيطرون بلا نهاية على المجتمع كله في جميع مجالات الحياة.
يسيطرون على السلطة من خلال أموالهم التي توجه الانتخابات وتحدد مصير الأحزاب المتصارعة على السلطة اذ من المتعارف عليه في المجتمع الرأسمالي ان الانتخابات السياسية تحسم بين كبار الرأسماليين. فمن يتحالف مع كمية نقود أكثر يتفوق على خصومه السياسيين ويسقطهم. وهكذا فالرئيس الأمريكي مثلا هو نتاج الأموال التي دخلت الانتخابات. وبالتالي هو نتاج قرار رأسمالي يقضي باختياره رئيسا على الشعب يمثل مصالح الرأسمالية وأطماعها في العالم.
وحتى إذا كانت قاعدة (المنافسة الحرة) تعطي الحق لجميع الأمريكيين بترشيح أنفسهم للرئاسة فإن الذي يدخل فعلا إلى (معركة الانتخابات) هم الرأسماليون أو المتحالفون معهم.
وحين تتنافس شركات كبيرة وأخرى صغيرة فإن المنافسة -لاشك- تنتهي بالتهام الشركة الكبيرة للصغيرة. فالمعركة دائما غير متكافئة حسب الشروط الرأسمالية التي تدعي الانسجام مع القواعد الطبيعية. والنتيجة -سياسيا او اقتصاديا أو اجتماعيا- تكون دائما بوجود طبقتين، سادة وعبيد، مستغلين ومستغلين، حكام ومحكومين، رأسماليين وعمال.. وانطلاقا من هذه النتيجة رفض الماركسيون الرأسمالية فاختفى بذلك بريق المنافسة غير المتكافئة التي تنتج في نهاية المطاف حياة ظالمة يتعذب فيها أغلب الناس لتعيش قلة منهم حياة مترفة باذخة.
وقد حلل ماركس المجتمع الرأسمالي فرفض الأوضاع الاجتماعية التي يؤدي إليها ، ودعا الى ثورة البروليتاريا. حيث يحطم العبيد صرح سادتهم الذين يستغلونهم، ليصبح المجتمع الجديد طبقة واحدة ولينتهي -كما ادعى- الصراع فيها نهائيا.
فقد لاحظ أن العلاقة بين العمال وأصحاب رأس المال هى علاقة صراع، وإن هذا الصراع سينتج وضعا جديدا يعتبر حلا للمعضلة التاريخية التى حاول علاجها. فاعتقد بان الحل الجديد سيكون سيادة طبقة البروليتاريا، غير أنه لم يكن فى نتائجه هذه مخلصا للجدل المادي الذى اعتمده منهجا للتحليل. فاذا أردنا الحكم علميا نكتشف أن حله هذا مخالف لجدله الذي يقول بان القضية ونقيضها يلدان كنتيجة لتفاعلهما تركيبا جديدا يختلف عنهما.
فاذا كان الفرض (القضية) أبيض، وكان نقيضه أحمر فان النتيجة جدليا لاتكون أيا منهما، ولكنها تجمع اللونين معا وتتقدم عليهما وتفضلهما.
ولكن ماركس انتهج منطقا جدليا يغلب طبقة البروليتاريا ويمكنها من تحطيم الطبقة الرأسمالية، ليثبت أن الصراع الطبقي سيؤدي بالبشرية إلى الشيوعية. فوفقا لمنطقه الجدلي، ينتهي الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية بقيام الشيوعية، غير أنه يوقف منطقه الجدلي عند هذا الحد، دون أن يخلق للشيوعية نقيضا يسمح للتاريخ بالحركة حسب القواعد الجدلية المعلومة. وقد اعتبر هذا الموقف خطأ منطقيا أضيف إلى خطئه السابق بشأن نتيجة الصراع بين العمال والرأسماليين.
فلقد فرض -غصبا عن الجدلية- المجتمع العمالي الذي أراد له أن يحل محل الرأسمالية، مبينا أن انتصار البروليتاريا سيسمح بظهور مجتمع اشتراكي ذي طبقة واحدة مما يؤدي إلى زوال الصراع. فالطبقة لن تصارع نفسها.
يجب أن نتفق مع الماركسية في أن المنافسة الرأسمالية أدت إلى الاستغلال وانقسم المجتمع على ضوء ذلك إلى طبقتين (رأسماليين وعمال)، إلى سادة وعبيد ، وأغنياء وفقراء، إلى حكام ومحكومين، فتفجرت فى داخله البطالة والاضرابات والقمع وقتل الديمقراطية. وأصبحت السلطة السياسية نتاجا لرأس المال، وفسد المجتمع الرأسمالى وتعفن فعلا، حتى عمت الحروب والدمار والاستغلال العالم كله فصار النظام الرأسمالي مرفوضا جملة وتفصيلا وبرز على حسابه نقيضه -الماركسية- فلماذا لا نأخذ بهذا النقيض الذي يقدم نفسه كبديل لنقيضه؟
نقض أساس الماركسية جدليا
للماركسية ثلاث قواعد تستند اليها:
الأولى : هي التحليل الذي اعتمده ماركس ولم يكن كله من بنات أفكاره، بل إن أغلبه موجود أصلا في البناء الفكري للرأسمالية وقد قدمه على هيئة نقد للرأسمالية. يتفق حوله أغلب ناقديها وليس ثمة اعتراض هام على تحليلاته الخاصة. فكل ما قاله عن الرأسمالية يصح فيها بالفعل، وله مبرره العلمي الكافي في ذلك، لأنه حلل الواقع.
والثانية: هي هدف ماركس وحلمه الذي سعى إليه، حيث أعلن عن أمله في أن يتمكن من تقديم ما يؤدي إلى خلاص البشرية من الاستغلال.
والثالثة: هي الحل الذي وضعه اعتمادا على تحليلاته وتمثلا لهدفه المشار إليه.
إن التحليل الذي قدمه ماركس صحيح الى حد بعيد وليس هناك اعتراضات قوية ضده. وكذلك هدفه الذي سعى إليه، لا يخالفه فيه أحد من الناس، والعالم كله سوف يبتهج إذا تخلص من الاستغلال، لكن الحل الذي قدمه كان خاطئا لأنه لا يؤدي إلى الهدف الذي سعى إليه.
إن الاستغلال موجود، وإن مجمل العلاقات الرأسمالية هي علاقات استغلالية وظالمة.. ويمكن أن يتفق العالم كله على هذه النتيجة. غير أن الأوضاع لا تسير حسب الاتجاه الذي تحدده الماركسية لها. فالاتجاه الذي تسير فيه العلاقات بين البشر يخالف ما تحدد فيها، مما يدفعنا إلى القول بأن الاتجاه الذي سارت فيه لا يؤدي إلى هدفها رغم انطلاقها من تحليل واقعي للرأسمالية فالمجتمع البشرى ينقسم إلى قسمين.. رأسمالي وماركسي، لا يصل أي منهما إلى الحل. ولكن العلاقة الجدلية بينهما تؤدي إلى ظهور أطروحة جديدة تكون هي الحل. ويتضح لنا الخلل الذي حال دون وصول الماركسية إلى الحل، بمجرد معرفتنا أن ماركس لم يلتزم موضوعيا بما يفرضه عليه جدله، حيث أناط بطبقة العمال القضاء على الطبقة الرأسمالية، في الوقت الذي يجب فيه جدليا ظهور وضع ثالث ليس الرأسمالية ولا العمال. أما افتراضه انتصار العمال وقيام مجتمع الطبقة الواحدة الخالي من الصراع، فهو قفز فوق الجدل الذي اعتمده، فاضافة إلى أنه غير منطقي، من حيث إن القاعدة الجدلية الباهرة التي تحكم الصراع الاجتماعي تبين أن طبقة مثل هذه ترث المجتمع -حتى لو نجحت في تصفية خصمها الطبقي- ستكتسب جملة صفاته، فتصبح بذاتها مجتمعا جديدا مكونا من عدد من الطبقات المتصارعة فيما بينها.
ومع ذلك، يجب أن نتساءل عن حقيقة انتصار العمال وسيادتهم في المجتمع، ويجب أن نعلم موضوعيا صدق هذا الطرح في الواقع.
فطبقة العمال قد تمت الاستعاضة عنها بالحزب الحاكم الذي يشرف على تصفية المجتمع لجعله طبقة واحدة، ثم ايصاله إلى الشيوعية شريطة إحكام سيطرته الكاملة على مقدرات المجتمع جملة وتفصيلا -بما في ذلك العمال أنفسهم- ليفرض ديكتاتورية سياسية وليصبح رب عمل بديلا من الرأسمالية. فنتيجة لما يعرف (بالثورة البوليتارية) اصبح المجتمع -نظريا- طبقة واحدة. ولكن هذه الطبقة لم تسد في المجتمع، بل ساد بدلا عنها حزب طليعي يعتقد بأنه طليعتها وأنه وحده يعرف الطريق إلى اضمحلال الدولة وتلاشيها، ومن ثم سيادة الشعب، وبالتالي قيام الفردوس الأرضي بتدشين الحياة الشيوعية.. الحلم الذي راود بشرا عديدين عبر التاريخ، حلموا بزوال الاستغلال وتحطيم القيود من أجل سعادة الجماهير الشعبية.
غير أن حكومة الحزب هذه ترسخ مزيدا من العبودية وتنفخ الحياة من جديد في أداة ديكتاتورية مرفوضة ديمقراطيا، تهيمن على الشعب، الذي ربما صار طبقة عمال، وترفض أن يمارس اي قدر من الحرية حتى لا يفسد الطريق إلى الشيوعية! أو خوفا من الوقوع مجددا بين براثن الرأسمالية، وهى أسباب لا تعدو أن تكون مبررا لاقامة ديكتاتورية أبدية من هذا الطراز.
حقيقة الحزب الطليعي
هو منظمة تدعي أنها تمثل طبقة ما، وأنها مقدمتها التى تصنع انتصارها وتحتكر ذلك لنفسها ولاتسمح به لأية جهة أخرى حتى ولو كانت الطبقة المعنية نفسها. فالحزب الطليعي لا يسمح بوجود حزب آخر معه، ولا يستطيع السماح بحرية الشعب. لانه إن سمح بشيء من هذا ضعفت قبضته الحديدية على المجتمع وفشل مسعاه الذي يطلبه. وربما أدى ذلك الى ظهور الرأسمالية لتعود البرجوازية التي تحكمها بالمجتمع من جديد، مما يعني فشل الثورة التي دفعت البروليتاريا وطليعتها المتمثلة بالحزب ثمنا باهظا من أجل إنجاحها، وحتى لا يحدث ذلك فإن ديكتاتورية مرحلية قاسية -حسب ظنهم- ستفرض نفسها على الواقع. غير أن مبررات كهذه لاقامة ديكتاتورية لا يمكن أن تجعل الدكتاتورية مرحلية، بل ستمتد بلا حدود في التاريخ لتصبح ديكتاتورية أبدية تبطش بيد من حديد بكل من تسول له نفسه الخروج عن طاعتها، أو الميل قيد أنملة عن خطها المعلم بالنار والدماء. فليس صدفة أن يتخذ هذا الحزب الطليعي اللون الأحمر لونا رسميا له. فتصبح حمرة الدم علما عليه، ويعرف الناس أن شعاراته وعلاماته، ومقولاته حمراء، بل إن ذلك لسبب وجيه يتعلق بموقفه من الخصوم السياسيين والمخالفين والايديولوجيين والمطالبين بالمطالب المخالفة لبرنامج الحزب و اطروحاته الفكرية حتى ولو كانوا أعضاء بالحزب نفسه، إذ أن خلافهم هذا يعتبر ردة منكرة تواجه بالعنف الثوري، الذي يصل إلى التصفية الجسدية.
إن جميع مراحل العنف -فى نظرهم- لها ما يبررها في مواجهة المخالفين والمنشقين والمنحرفين، فهي دفاع مشروع عن هدف إنساني سام يسعى البشر عبر التاريخ إلى تحقيقه وهو قيام الشيوعية.
ويؤدي هذا إلى قيام ديكتاتورية غير محدودة الأجل، وهو أمر مرفوض سياسيا، فالحزب الطليعي الذى يستمر مسيطرا على المجتمع إلى أن يتحقق هدفه الذي لا يمكن أن يتحقق بالطريقة التي ينتهجها، يعني أنه سيستمر مسيطرا إلى الأبد، لأنه لن يعرف طريقا إلى تحقيق هدفه.
فهل يستطيع أحد الاجابة عن سؤال نصه: متى تتحقق الشيوعية؟
يقول ماركس في إجابته عن هذا السؤال: إنه لا يعلم الوقت الذى تتحقق فيه الشيوعية، ولكنها تتحقق كنتيجة لاطراد التقدم، فاذا واصل المجتمع طريقه بالشكل الذي يرسمه الحزب، فانه يصل فى نهاية المطاف إلى الشيوعية وهكذا فان استمرار حكم الحزب لانهاية له.
إن الاجابة المقبولة منطقيا والتي تقول بها الماركسية إجابة عن هذا السؤال تتلخص فى أن الشيوعية تتحقق عندما يتحقق الرخاء والوفرة، أى عندما يتكدس الانتاج. ويتكدس الانتاج عندما يبذل كل فرد في المجتمع الاشتراكي جهدا مضاعفا لصالح المجتمع. ولا ينال إلا حاجته الماسة، فيتحقق المبدأ الشيوعي المشهور (من كل حسب جهده، ولكل حسب حاجته). فبعد رحلة طويلة من العناء والجهد تتكدس الحاجات بوفرة ورخاء كملكية عامة للمجتمع. حيث يعمل كل فرد ويضيف إنتاجه الى الكدس، ولا ينال منه الا ما يشبع حاجته فعلا. وعند هذا الحد يتخلص المجتمع من القيود وتتحرر حياة الناس فلا نظام ولا دولة ولا اية علاقة تربط الأفراد ببعضهم أو تجبرهم على الخضوع لها.
مظاهر الأزمة
غير أن ثمة أسئلة يمكن إثارتها في هذا الصدد، مثلا:
- هل يمكن أن تصل المجتمعات البشرية إلى هذه المرحلة التى يلتزم فيها الانسان بوضع إنتاجه تحت تصرف المجتمع ولا ينال من إنتاج المجتمع إلا ما يكفي لاشباع حاجته فقط؟
- إذا تكدس الانتاج وتحققت الوفرة -بمعجزة ما- هل من المعقول او الواقعي أن يكتفي جميع الأفراد في المجتمع بحاجاتهم فقط دون أية زيادة، خاصة وهم يفعلون هذا دون رقابة من أحد؟
- وهل تساعد قيادة الحزب الطليعي المجتمع على تكديس الانتاج، وتحقيق الشيوعية، واضمحلال الدولة وتلاشيها في النهاية؟ أي هل يساعد الحزب الطليعي في إنهاء نفسه وتلاشي سيطرته على المجتمع؟
- كيف تنتهي الدولة التي يمثلها حزب حاكم مسيطر بيد حديدية على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
لقد تبين وجود تناقض عميق بين فكرة تلاشي الدولة هذه والممارسة التي يمارسها حزب طليعي لترسيخ حكمه بتقوية نفسه وتشديد قبضته على الشعب.
فقد عبر ستالين عن ذلك حين قرر أن الدولة الاشتراكية قبل أن تختفي يجب أن تصبح أقوى دولة في العالم. ولعله من الواضح أن تناقضا ينشأ هنا بين الرغبة في إنهاء الدولة وبين تقويتها لتصبح أقوى دولة في العالم.
إن القول بأن الماركسية تقوم على زوال الدولة القومية ليصبح العالم دولة واحدة -بعد انتهاء القوميات والأديان- يتولى العمال حكمها في جميع أنحاء العالم يوحدهم شعارهم المعلن (يا عمال العالم! اتحدوا!)، لا يفسر التناقض الذي يزيده غموضا إصرار ستالين على أن (الدولة الروسية) قبل اختفائها يجب أن تكون أقوى دولة في العالم.
من المؤكد أن الدولة التي يكونها حزب طليعي يسيطر فيها على المجتمع من خلال سيطرته على السلطة، ويكتسب مبرر استمرار حكمه من هدف غير محدود في الزمان هي دولة لا تختفي ولا تضمحل ولا تتلاشى أينما نشأت في أي مكان من قارات العالم وفي أي زمان. - ويصبح هذا أكثر وضوحا حين نعرف أن الدولة تزداد قوتها كل يوم على حساب الشعب الذي يفقد حريته نهائيا، ويرضخ لجبروتها المتنامي مقهورا ويعدم أية وسيلة لمقاومتها.
أما ما يخص مسألة تكديس الانتاج وتحقيق الرخاء، فان الواقع أثبت لنا أن الانتاج لم يتكدس في أية دولة، بسبب استنزافه بشكل مكثف ومستمر في مجالات عديدة معروفة. وفي سباق القوة الذي تخوضه الدول بحماس كبير فيما بينها. ثم إن افاقا جديدة تفتح باستمرار تلتهم مزيدا من الانتاج مما يجعل تحقيق وفرة الانتاج وتكديسه معضلة صعبة وتستهدف حاليا البرامج الاقتصادية للدول تحقيق حد أدنى من الانتاج لمواجهة العجز الكبير في برامجها الاقتصادية، ولتخفيف اثار المشكلات الاقتصادية الحادة التي ج تواجهها الشعوب من بطالة ونقص في الغذاء ومصادر الطاقة وغيرها.
إن كافة الدراسات الاقتصادية والاحصاءات التي تنشر من فترة إلى اخرى، ومنذ بعيد قد أثبتت هذه الحقيقة.
معضلة الحاجات
من المستحيل اكتفاء الدولة التي يقيمها الحزب الطليعي، ولكن لنفترض جدلا أن ذلك قد تحقق وتكدس الانتاج أيضا، فهل ينال كل فرد في ذلك المجتمع حسب حاجته، لتتحق المعجزة الشيوعية المنوه عنها؟.
فمثلا يتكون المجتمع من عدد غير قليل من الأفراد (أ، ب، ج، د…)
1. (أ) مواطن أنتج وحدة إشباع واحدة بحسب جهده ويحتاج لاشباع حاجاته خمس وحدات إشباع بحسب حاجته.
2. (ب) مواطن أنتج ست وحدات اشباع حسب جهده واستهلك وحدة إشباع واحدة حسب حاجته.
والمطلوب هو أن ينال (أ) حاجته، وأن يتنازل (ب) عن انتاجه بلا مقابل بعد أن أنتجه بلا مقابل، وبلا أي حافز منذ البداية.
وبناء على القاعدة التي تقول (من كل حسب جهده ولكل حسب حاجته)، يجب أن يتحقق المطلوب.
إلا أن هذا الطرح لا يمكنه الصمود فى وجه التحليل العلمي، حيث يتضح من السرد الذي أوردناه ان الشيوعية -بهذا المنهج- اطروحة باطلة من أساسها لأن قيامها يشرط الوصول إلى عدد من الفرضيات التي تعتبر مستحيلة.
فلكي يتحقق الحلم الشيوعي لابد من :
أ- أن يتكدس الانتاج ليتحقق الرخاء والوفرة.
ب- أن تختفي الدولة وتعم الحرية بلا رقيب ولا حسيب.
ج- وأن يعمل كل حسب جهده، وينال حسب حاجته فقط.
ومهما كانت الطريق التي تحمل البشر إلى الشيوعية صعبة ودموية وعنيفة، إلا أن هذه الفرضيات تبدو جميلة وحسنة في بعض جوانبها، لولا أن ذلك درب عقيم لا فائدة فيه ولا طائل تحته.
فحين تعيش في مجتمع يتكدس فيه كل شيء، وتاخذ ما تحتاجه فقط دون زيادة، ثم تذهب لتنتج ما تستطيع انتاجه حسب جهدك لمصلحة المجتمع. يعني ذلك أنك إنسان لا مثيل له في العالم الذي نلمسه، وربما نقول لا مثيل له فى المخلوقات جميعا فأنت إما ملاك وإما أبعد من ذلك عقلا وروحا.
ويبدو ذلك جميلا في شكله الذي أوضحناه به ، غير أن في أساسه قضية خاسرة أو دعوى باطلة لا تستند إلى حقيقة، أو هو -كالعنقاء-، مستحيل تأرجح في خيال الناس عصورا. دون أن يجد له مصداقا ينطبق عليه في الواقع.
ومثلما العنقاء مفهوم لا ينطبق على شيء في الطبيعة، فكذلك الشيوعية التي تصفها الماركسية فهي قضية باطلة بلا جذور وليست من صلب الحل الذي تقدمه على الرغم من قولها بتكدس الانتاج وزوال الدولة وتحرر الانسان من سطوتها.
وبهذا نصل جدليا إلى حل ثالث هو النتيجة الحتمية للعلاقات الظالمة السائدة في المجتمعات البشرية، وهو النتاج الطبيعي لمعاناة الانسان المستمرة وفشل الحلول المطروحة في الاستجابة لها.
إن أخطر علاقة ظالمة وأهمها في العالم المعاصر تتمثل فى نظام الأجرة، حيث إن جميع المنتجين وفى مقدمتهم العمال هم أجراء في النظام الرأسمالي، يتحكم أرباب العمل الرأسماليون في إنتاجهم مقابل اجرة. وعندما أرادت الماركسية تحريرهم حولتهم إلى أجراء لدى الدولة الماركسية، وحين تغير صاحب العمل لم يتغير وضعهم. وقد بدأت الاضرابات والمظاهرات العمالية تحدث في دول ماركسية مما يعني وجود استغلال للعمال نتج عنه تذمرهم وتمردهم. فالدولة رب عمل جديد يستغل الشغيلة التي لا تملك إلا الرفض. وهذا دليل على أن المشكلة لم تحل بعد.
إن الربح في الدولة الرأسمالية -كما يقول الماركسيون- يعود إلى خزينة رب العمل الرأسمالي بشكل شخصي لينفقه على نفسه وعلى أسرته. ولكنه في الدولة الماركسية يؤخذ من العمال لتنفقه الدولة على نفسها ومشروعاتها، وحجتها فى ذلك أن الربح لا يعود ليد شخص بعينه وإنما يعود لكل المجتمع بمن فيه العمال. وهذا صحيح صوريا، ولكنه خطأ عمليا، إذ يبدو من الناحية الصورية أن الأرباح فى القطاع العام لا تعود إلى جيب وزير أو نائب أو مسؤول بل من المفروض أنها تعود للمجتمع. غير أن هذا لا يتحقق عمليا، فالعامل مثلا يستأجر منزلا لأسرته أو حتى حجرة ويقبض راتبا يمثل الحد الأدنى ويطلب منه العمل بكل جهده لكي يتكدس الانتاج من أجل الشيوعية.
لقد جد شيء واحد هو القضاء على البطالة التى تفتك بالنظام الرأسمالي، والبطالة معضلة تستحق أن نعرف أسبابها وأثرها في الحياة الاجتماعية وأن نحدد الطريق التى تم بها علاجها في النظام الماركسي.
إن فرص العمل في النظام الرأسمالي لا تتساوى أمام جميع طالبي العمل، فوفقا لمبدأ (المنافسة الحرة) يجد بعض العمال فرصا أكثر باعتدائهم على فرص غيرهم الذين لا يجدون أية فرصة عمل على الاطلاق.
ولكن فرص العمل في النظام الماركسي تتساوى أمام جميع طالبي العمل فيلتقون جميعا عند الحد الأدنى الممكن وهذا يفسر وجود أغنياء وفقراء مترفين ومحرومين في ظل النظام الرأسمالي بينما في النظام الماركسي لا نجد إلا عمالا فقراء يعيشون على الكفاف حيث تتوفر أمام العامل فرصة عمل واحدة، وليس هناك عامل لا يجدها. في حين أن ملايين العمال يتعطلون عن العمل ولا يجدون أية فرصة في النظام الرأسمالي.
فالعمال في الماركسية لا يعانون بطالة. ولكنهم فقراء يعيشون على الكفاف ويعملون بالحد الأدنى من الأجور وهو سبب توفر فرص العمل للجميع. فالعامل في المجتمع الماركسي ينتج مثلا ما يساوي عشر وحدات إشباع، ولكنه يأخذ منها واحدة فقط، وما تبقى يؤخذ منه للدولة دونما خيار بحجة ان ذلك أمر ايديولوجي أو لأنه مقرر في برنامج الحزب لتتمكن معه الدولة من مواجهة الظروف، أو ليتكدس الانتاج من أجل إقامة الشيوعية. ولكن هل تبقى وحدات الاشباع التي تنتزع من العمال مكدسة لأجل إقامة الشيوعية؟ إن الواقع يخالف هذا القول، لأن الأموال توظف في سباق التسلح وفي برامج الفضاء وإنتاج الأقمار الصناعية الخ.. فوق ذلك كله تأكل برامج الدولة العادية والتزاماتها الخاصة الوحدات المكدسة.
وعلى الرغم من أن فرص العمل غير متساوية في الرأسمالية، فإن العمال الحاصلين على فرص عمل يتم استغلاهم بكل قسوة، فالعامل الذى ينتج عشر وحدات إشباع يأخذ وحدة واحدة، لأن الوحدات الباقية تنزع منه لمصلحة رب العمل الرأسمالي.
وهكذا يتشابه الوضع، بل يتطابق تماما في أغلب تفصيلاته بين النظامين. فوضع العمال لم يتغير مع أرباب العمال الرأسماليين الذين يجبرونهم على العمل عددا معينا من الساعات، ويدفعون لهم أجرة تقل عن عملهم ليكون الفرق ربحا لأرباب العمل. فالربح على كل حال من تشغيل العمال بأجرة أقل من ثمن إنتاجهم، حتى في الدولة الماركسية يجبرون على العمل بنفس القاعدة التي هي نظام الأجرة ولكن بحجة مختلفة هي ضرورة تكديس الانتاج سعيا لتحقيق الشيوعية.
إن الفرق الوحيد بين النظاميين كما اوضحنا هو عدم وجود بطالة بين العمال في النظام الماركسي مع عيشهم على الكفاف ورضاهم بالحد الأدنى من الأجور.
وعلى كل حال، هو وضع أفضل من الوضع الرأسمالي حيث ينعم برغد العيش عدد قليلا من الناس، بينما الغالبية محرومة منه. وهو حسب رأي الماركسيين أفضل من الرأسمالية، فهم يقولون: (لأن تعيش مجموعة أسر في بيت واحد، أفضل من أن تعيش أسرة واحدة في البيت نفسه وتبقى بقية الأسر بلا مأوى).
مثال على توزيع فرص العمل في النظامين
إذا وجد مائة عامل يحتاجون للعمل في دولة ماركسية وكان لديها ما يساوي مائة دينار مخصصة للأجور، فان أجرة كل عامل هي دينار واحد شريطة أن يعملوا جميعا فلا يبقى أحد دون عمل، أما في الدولة الرأسمالية فيمكن مثلا تشغيل اثنين منهم بأجرة مقدارها خمسون دينارا، أو أربعة بأجرة مقدارها خمسة وعشرون دينارا فيبقى بقية العمال دون عمل، وحتى حين تختفي البطالة من المجتمع الماركسي فان استغلال العمال لم يختف، فالعامل ليس حرا في تحديد ما يؤخذ من إنتاجه ولا يمكن تقرير ما يستخدم فيه، فهو لا يحكم لأن تلك صلاحية الحزب الحاكم.. وهذا وضع مماثل لوضع العمال في الرأسمالية، حيث يكون أرباب العمل أحرارا في المقدار الذي يغتصبونه من انتاج العمال في صورة أرباح لهم. ولا يستطيع العمل التدخل في تصرف الرأسماليين بالأرباح فهم ليسوا شركاءهم بل أجراؤهم وعبيدهم. فالمال حق الرأسمالي يتصرف فيه كيف يريد، ولا يستطيع العامل أن يطلب إقامة مشروع لفائدته الخاصة أو لفائدة المجتمع كبناء مستشفى مثلا وبالرغم من أن المال مال العمال انتزع منهم ظلما وسرقة، وكذلك ليس بمقدورهم الاعتراض على تصرف الرأسماليين فيه كانفاقه في السياحة أو شراء الطائرات الخاصة بهم أو حتى فقده في لعب القمار.
إن وضع العمال في الماركسية مطابق لوضعهم في الرأسمالية، حتى أن المظهر الديمقراطي في الماركسية يقتصر على قيام الجماهير بالاختيار داخل قائمة يقدمها الحزب نفسه، وهذا يعني أن المسئولين والحكام ولجان الادارة معينون تعيينا فوقيا من قبل الحزب الحاكم ليحكموا الجماهير.
وهكذا فان الأجراء لا يشاركون في السلطة، ولا يأخذون إنتاجهم، بل ينالون أجرة أقل مما ينتجون، ويعيشون على الكفاف، الأمر الذي يدعو الى تحريرهم. والكفاح معهم لتفجير ثورتهم الجديدة التي تقدم الحل الجذري لتلك التناقضات التي أوجدت معضلات مؤثرة في حياتهم ولتظهر بعد ذلك الأطروحة البديلة كنتاج جدلي لكل ما ذكرناه، فيصبح المنتجون شركاء لا أجراء.
شركاء لا أجراء
حين يتحرر المنتجون من أجرة الرأسمالي أو الدولة فمعنى ذلك أنهم حرروا إنتاجهم من سارقيه ومغتصبيه، حيث إن القاعدة السليمة هى: (إن الذي ينتج هو الذي يستهلك)، فيعود الإنتاج لمنتجيه وينتهي الاستغلال والعبودية حين ينتهي العمل مقابل أجرة. لأن العامل بأجر لدى رب عمل هو عبد له. وإذا تنازل عن إنتاجه لجهة ما مقابل أجرة، فإنه يصبح عبدا لها. إن العمل لحساب أية جهة -حتى إذا كان بدون أجر- ولو تطوعا، يجعل الانسان عبدا في جميع الأحوال.
إن تحرير الشغيلة ضروري لتحرير المجتمع البشري، فهو يعني بالتحديد تحرير الانسان من الاستغلال والعبودية ولا يعتد بحرية النقاش أو حرية التعبير مع وجود أسياد يسيطرون وعبيد يخضعون ويطيعون، فتحرير الشغيلة هدف مبدئي سواء كان سادتهم أفرادا أو دولا. ولا تتحقق الحرية إلا بالقضاء على ظاهرة العمال الشغيلة وعلاقات الأجرة والايجار ليصبحوا منتجين شركاء في الانتاج.
إن شعوب العالم جميعا، وخاصة جماهير الشغيلة، تثور على الأوضاع الظالمة السائدة وفق علاقات الانتاج الاستغلالية التي أفرزها نظام الأجرة، فلم يعد هناك أي مبرر ليصبح إنسان ما صاحب عمل ويصير الآخر عاملا عنده أي عبدا له أو عاطلا بلا أي عمل. فالثروة ملك للجميع، ولا يجور احتكارها من قبل المستغلين والحاذقين والسارقين.
والانسان في المجتمع الجماهيري عليه القيام بمفرده بالعمل من أجل نفسه لاشباع حاجاته دون أن يستخدم غيره في ذلك. وهو مسؤول عن حماية نفسه حيث يقوم لمصلحتها بالمهام الاجتماعية والانسانية والحضارية التي تتمثل في الأكل والنوم والزواج والعبادة والدفاع والتشريع وحفظ الامن والتخطيط وممارسة السلطة، دون أن ينوب عنه أحد في ذلك، فلا يجوز أن ينوب أحد عن إنسان حي فيما هو من شأنه الخاص، ولابد لكل فرد من القيام بذلك بنفسه.
فحين تكون السلطة شعبية، فإن مسؤولية كل فرد من أفراد الشعب هي ممارستها وحمايتها بحيث يكون عضوا في المؤتمر الشعبي لممارسة السلطة والدفاع عنها.
إن المرحلة التاريخية التي توجد فيها الحكومات فوق الشعوب، وتوجد فيها المجالس النيابية لتمارس الدجل والتزييف، لهي مرحلة متخلفة إنسانيا وحضاريا. وهي مدعاة للسخرية والضحك حين نعلم بأن الحكومات -التي تحكم فعلا- قد استأجرت جهازا للمخابرات بحجة حماية الشعب، واشترت جهازا اخر أكثر هزلا للقيام نيابة عن الشعب بالدفاع عن بلده، واستأجرت هيئة أخرى تشرع نيابة عن الشعب، كل ما تراه صالحا له.
إن ذلك يدل على مدى التخلف الذي يعانيه الانسان ومدى القهر الذي تتعرض له الشعوب. وحين تعمل للتخلص من هذا التخلف والقهر تمارس ذلك بنفسها دون وصاية أو نيابة من أحد.
خلاصة الملكية في ظل سلطة الشعب
في المجتمع الجماهيري. لا يصح ان يعمل فرد لدى أخر. أن هذا ليس قرارا فوقيا يتخذ بمعزل عن الواقع. بل تفرضه العلاقة الجدلية التاريخية التى لم تعد تسمح بذلك، حيث إنها أسقطت المبررات التي تتخذ لتشغيل إنسان لدى اخر. لأنه حين يعمل المنتج لدى آخر فان رب العمل سيسرق جزءا من إنتاجه باسم الإرباح، وهذا استغلال مرفوض ومناف للقاعدة السليمة التي ولدها الجدل التاريخي في الصراع بين العمال وأرباب العمل وهي أن (الذي ينتج هو الذي يستهلك)، لذا ينصرف كل فرد إلى خدمة نفسه فيبحث عن إشباع حاجاته بالطريقة التي تلائمه. فان كان فلاحا نال من الارض كفايته بحيث يعمل بنفسه فلا يستخدم فيها غيره ويشبع منها حاجاته دون أن يسمح له باستغلال غيره. وتحل بهذه الطريقة مشكلة ملكية الارض حيث تتحرر من الاقطاع، ويتحرر الفلاح أيضا بتحرر حاجته من الارض. إن جهد الانسان محدود، ولو سمحنا له باقتطاع مقدار من الارض بشرط أن يفلحه وحده، فإن هذا المقدار سيكون بالضرورة محدودا، ولن يتمكن أي كان من الاعتداء على نصيب غيره من الارض إلا إذا سمح باستخدام أجراء، أي باستغلال آخرين لأن ذلك سيؤدي إلى تكون الاقطاع الزراعي واحتكار الارض، التي في ظل سلطة الشعب يجب أن تتحول الى ملكية لجميع الأفراد، خلافا للرأسمالية والماركسية. بحيث ينال كل فرد نصبيه فيها دون استغلال.
غير أن تحقيق ذلك لا يكون الا بقيام الثورة الشعبية حيث تنتصر الجماهير الشعبية على اعدائها التاريخيين وتدمرهم، وتقضي على الحياة المنحرفة التي صنعوها. فإذا ما حاول -بعد ذلك- أحد إحراز ربح من جهد المنتجين فانهم سيقومون بأنفسهم بالتصدي له ومنعه من ذلك بمواجهته بحقائق العلاقات الاقتصادية التي تبين أن أحدا ليس له الحق فيما ينتجه غيره، وسيكون من حقهم العمل لمصلحة أنفسهم، فإذا حاول استغلالهم بالقوة تصدوا له وجردوه من قواه، وعرضوه للتصفية إذا أصر على موقفه المعادي لهم.
إن أي فرد بإمكانه إنشاء مصدر عمل وانتاج له ولأسرته بغرض إشباع حاجته وحاجة أسرته. فالمصنع الخاص والورشة وخلافهما من مصادر العمل الانتاجي مكفولة في المجتمع الاشتراكي الجديد شرط أن تعمل بها وحدك فلا تستخدم أحدا غيرك فيها لأن ذلك استغلال وهو مرفوض علميا وإنسانيا.
وبناء على ذلك فإن الرأسمالية، تنتهي بنهاية الاستغلال الذي يعتبر عمودها الفقري الذي تقوم عليه ولن توجد من جديد أو تنمو من خلاله.
أما أولئك الذين لا يتوفر لهم فرص عمل خاص يديرونه بأنفسهم، فان بإمكانهم العمل مع جماعة المنتجين في مؤسسة إنتاجية كبيرة يكونون فيها شركاء وليسوا اجراء يتقاسمون الانتاج فيها بحسب جهدهم وساعات عملهم، حيث يشكلون مؤتمرا إنتاجيا يخطط ويقرر لشركتهم أو منشأتهم الانتاجية ويختارون من بينهم لجنة شعبية من أفراد أكفياء لتنفيذ قراراتهم. وتكون.مسؤولة أمامهم في المؤتمر الشعبى الانتاجي الذي يتمتع بعضويته جميع المنتجين بلا استثناء.
إن المؤسسات من هذا النوع هي مؤسسات اشتراكية. يقسم إنتاجها على العوامل التي شاركت فيه وفق القاعدة الطبيعية التي تقول (بأن لكل عامل من عوامل الانتاج حصة في هذا الانتاج). وهذه العوامل هي المصنع أو الآلة التى استخدمت، والمادة الخام التي جرى استخدامها. والمنتجون الذين استخدموا هذه الامكانات. والذين من حقهم توزيع إنتاجهم فيما بينهم. وتحديد قيمة معينة لتجديد أدواتهم أو شراء موادهم التي يعملون بها. كما أن لهم الحرية في تحديد مقدار ما يحولونه للدفاع أو بناء الطرق أو لوضعه في الخزينة العامة.
هؤلاء المنتجون الأحرار.. أعضاء المؤتمرات الشعبية الأساسية التي بيدها السلطة والسلاح، هم سادة أنفسهم، لم يعودوا عمالا وليس فوقهم رب عمل لا فرد ولا دولة.
أما أولئك الذين ليسوا في إحدى المجموعتين المشار إليهما فعليهم تقديم خدمة عامة للمجتمع يقبلها منهم ويحددها لهم ويقدم لهم مقابلها إشباعا لحاجاتهم بقدر خدماتهم. فالطبيب والمعلم مثلا يتكفل المجتمع باشباع حاجاتهم مقابل تقديمهم لخدمات مطلوبة من قبل المجتمع، وليسوا متفرغين لانتاج حاجاتهم بانفسهم مما يجعلهم في حاجة إلى أن يقدم لهم المجتمع ما يكفي لاشباعها.
إن أفراد المجتمع في سعيهم من أجل إشباع حاجاتهم يتوزعون تلقائيا بين الفئات الثلاث هذه ولا يبقى خارجها سوى الأفراد الذين لا يطلب إليهم تقديم إنتاج كالأطفال الصغار والعجزة الذين لا يستطيعون تأدية أية خدمة. ولا يقدرون على القيام بأي نوع من الانتاج، فهم بالتالى عاجزون عن إشباع حاجاتهم فيتكفل المجتمع الجماهيري، وهو مجتمع إنساني متقدم وراق خلقيا -يقدر الانسان لقيمته في ذاته- فيفي بحاجاته لان ثروة المجتمع هي حق لكل أفراده دون استثناء، ويتولى الضمان الاجتماعي مسؤولية حمايتهم والاشراف على تخطيط حياتهم وتوفير حاجتهم.
بهذا تتضح الآن صورة المجتمع الجماهيرى.. مجتمع الاشتراكية الجديدة، والحياة الانسانية الرفيعة، وتتكامل بهذه الصورة جملة أفكار فذة وجديدة أفرزتها المتناقضات الفكرية السائدة فى العالم عبر صراعها المرير وعبر مراحل طويلة تصاعد فيها جدل علمي وموضوعي أدى إلى تكامل النظرية الجماهيرية التي ستنتصر حتما، لأنها الطريق الأمثل علميا وعمليا.
ان قيام الثورة فى بلد يحكمه ملك يؤدي الى قيام الجمهورية. ولكن الثورة ضد الجمهورية ستؤدى إلى قيام الجماهيرية. انه تغيير جذري وجوهري وفعال فى حياة البشر. سيؤدي الى نتائج باهرة فى مستقبل الحضارة والانسان.
انها نظرية الغد السعيد للانسانية إذا ما قدر لها أن يمتد وجودها أمدا طويلا، ، ولقد تضمن هذه النظرية الكتاب الاخضر كحصيلة لجدل تاريخي طويل كان لابد لها أن يجمعها كتاب فقدمه معمر القذافي للبشرية كعمل علمي مجرد، يدعمه حرص فياض على تحقيق انتصار الانسان فى كل مكان وزمان.