العالم يتقلب ولم يتغير
العالم لم يتغير:
لقد تحققت جملة معطيات في المجتمعين النموذجيين القائمين الآن. المجتمع الرأسمالي والمجتمع الماركسي، وتطابقت تقريبا كل شروط هذه المعطيات شكليا وجوهريا.
كما أن هناك تشابكاً كبيراً بين المجتمعين النموذجين. ومن خلال تتبعنا لتطور المجتمعات.. نجد أن هذه المعطيات مازالت باقية بكل اشتراطاتها الشكلية والجوهرية، الأمر الذي يؤكد لنا أن العالم يتقلب فعلا ولم يتغير. إن جملة معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية تكون- تركيبة المجتمع.. وهى موجودة بداية في المجتمع الرأسمالي باعتباره النموذج الأول.. ثم حصل انقلاب عليه بقيام الماركسية.
ولدى تتبعا تطور المجتمع الماركسي.. نتتبع أيضاً تركيبته، هل هي نفس تركيبة المجتمع الرأسمالي؟ هل المعطيات التي كانت موجودة في المجتمع الأول، موجودة في المجتمع الثاني؟ فإذا فقدت وحلت محلها معطيات جديدة، فقد تغير المجتمع. أما إذا وجدنا نفس المعطيات موجودة في المجتمع الثاني، أي إن أساسيات المجتمع الرأسمالي(النموذج الأول) موجودة في المجتمع الماركسي(النموذج الثاني) ولو بشكل مختلف، فإن معنى ذلك هو عدم حصول تغيير في العالم. فإذا حللنا البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنموذج الأول- وهى بنية متداخلة تداخلا شديداً، بحيث يصعب فصلها وتجزئتها. نرى أنه حدث انقلاب اقتصادي من قبل الماركسية فبتحليلنا للنموذج الثاني وجدنا بنيته الاقتصادية امتداداً للبنية الاقتصادية للنموذج الأول. وهو يعنى عدم حدوث تغيير، لأن البنية الأولى لم تنته ولم تختف.
وكذلك الحال بالنسبة للبنية الاجتماعية التي يجب أن نحللها إلى أساساتها الأولية التي تشكل أساس المجتمع وهي تشمل النقاط الآتية-
ا - طبيعة النشاط الاقتصادي.
2 - العلاقات التي تحكم أطراف قوى الانتاج.
3 - الإدارة الاقتصادية.
من يدير القرى الاقتصادية في هذا المجتمع أو ذاك؟ ما دوره؟ وما حقوقه؟ .. إذ من المعلوم. أن الاقتصاد لا يدور تلقائيا بل يدار بواسطة ادارة، فما الفرق بين المجتمعين النموذجيين اللذين ندرسهما الرأسمالية والماركسية في موضوع الادارة؟ هل انعدمت الادارة في أحدهما؟ أم اختلفت.. أم أنها نفس الادارة؟
الانتاج لمن يعود؟ من يستهلكه، من صاحب الحق فيه؟ فإذا أخذنا الأرض مثلا- كمعطية من معطيات النشاط الاقتصادي- فمن يملكها؟ وكيف تستغل؟ ومن يستغلها؟ وأين يذهب ناتج استغلالها؟.
حدث انقلاب على الرأسمالية بقيام المجتمع الماركسي ولكن هل تخلصت الانسانية من المشكلات التي كانت تواجهها في المجتمع الرأسمالي، أم أنها ما زالت تواجه نفس المشكلات بحظوظ مختلفة؟
لنجيب عن هذا السؤال حللنا المجتمع الجديد النموذج الثاني لنعرف تركيبته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ومن خلال قياسنا له بالمجتمع القديم النموذج الأول، اكتشفنا أنه الوجه الثاني لنفس التركيبة الاجتماعية..
إن الرأسمالية والماركسية وجهان لعملة واحدة، يمكننا الوصول إلى أحدهما بقلب الوضع نفسه دون الانتقال إلى وضع جديد.. دون البحث عن وضعية أخرى ذات قيمة مختلفة وشكل مختلف.. فحين نطلع على الرأسمالية ليس علينا لنطلع على الماركسية إلا أن نقلب ما في أيدينا مباشرة لنصل إلى الماركسية.. حتى إذا أردنا مقارنتها بالرأسمالية قلبنا العملة على الوجه الثاني فتبرز الرأسمالية دون عناء انهما وجهان لعملة واحدة.
هكذا العالم اليوم، له وجهان وجه رأسمالي ووجه ماركسي لكنه لم يتغير.
فالنشاط الاقتصادي في المجتمعين متماثل تماما، إن ذات قوى الانتاج الرأسمالي تكرر نفسها في الانتاج الماركسي فحين تكون أطراف قوى الانتاج في النموذج الرأسمالي عبارة عن أجراء وأرباب عمل، فان ذلك نفسه يتكرر في المجتمع الماركسي بغض النظر عن الاختلاف الشكلي في مسألة رب العمل من حيث أنه رب عمل واحد أو أرباب عمل متعددون. ولكن جوهرياً لم يتغير شيء، فالأجراء هم الأجراء في النموذجين معاً.. هم الشغيلة نقلوا من الرأسمالية إلى الماركسية بأجرتهم دون تغيير.
غير أنه حصل انقلاب في مسألة رب العمل، فأرباب العمل الرأسماليون الاستغلاليون في النموذج الرأسمالي تمت الاطاحة بهم في ثورة بروليتارية، وحل محلهم رب عمل جديد هو الدولة الماركسية.
وهذا معناه أن الطبقة الرأسمالية التي كانت تؤجر العمال أطيح بها لتحل محلها الدولة الرأسمالية أو نظام رأسمالية الدولة الذي يرسخه النموذج الماركسي.
كذلك فإن الادارة في النموذج الرأسمالي هي ادارة خاصة استغلالية يمارسها مالكو الشركات والمؤسسات الاقتصادية باعتبارهم أرباب عمل لهم حق اداره العاملين معهم.
وهى في النموذج الماركسي ادارة أيضا وبنفس مواصفات الادارة الرأسمالية والفرق الوحيد بينهما أن الادارة الماركسية ادارة حكومية تمارسها الحكومة كرب عمل على العاملين. أقصد أن الشغيلة في النموذجين معا لا تزال تدار بواسطة غيرها، وليست هي التي تدير، فهي في النموذج الرأسمالي تدار بواسطة صاحب رأس المال الاستغلالي الخاص كصاحب الشركة والمصنع وغير ذلك.. وهى في النموذج الماركسي تدار بواسطة رب العمل الجديد الذي هو الدولة الماركسية.
والجهد الانتاجي الذي تبذله الشغيلة يعود في النموذج الأول إلى رب العمل الفرد أو الشركة. ويعود في النموذج الثاني إلى رب العمل الجديد الذي هو الدولة الماركسية.
فهل حدث تغيير في توزيع الانتاج بالنسبة للشغيلة؟ لم يحدث أي تغيير فالانتاج الذي تنتجه الشغيلة يؤخذ اما لصالح الطبقة الرأسمالية أو لصالح الدولة الرأسمالية. ويستثمر لصالح أرباب العمل الرأسماليين ملاك الشركات والمصانع كما يستثمر لصالح الدولة الرأسمالية في النموذج الماركسي رغم انه لا يستثمر لصالح فرد يستغله في مشروعاته الخاصة ويحقق عن طريقه مصالحه الخاصة إلا أن التعديل الذي حدث في الماركسية طفيف وغير جذري، حيث أصبح الانتاج يستثمر من قبل الحكومة وتحت سيطرتها المباشرة.
والأرض في النموذج الرأسمالي يملكها الاقطاعيون ويعمل بها الأجراء كالمصانع التي يملكها الرأسماليون ويعمل بها الأجراء تحت هيمنة الرأسماليين. أما في النموذج الماركسي فالأرض تملكها الدولة سواء أكانت مزارع جماعية أو مزارع تعاونية وإذا كان هناك مزارع خاصة في عدد منها فتعتبر ملكية الأفراد لها مؤقتة في طريقها إلى الانتهاء.. ويعمل في الأرض أجراء للحكومة.
والتجارة في النموذج الرأسمالي هي متاجر خاصة وتجارة خاصة غايتها الربح على حساب المستهلك، وتتجمع الأرباح في جيب صاحب المتاجر الخاصة.
فالغيت التجارة الخاصة في النموذج الماركسي وحلت محلها التجارة العامة، فحلت الحكومة الماركسية محل التجار الرأسماليين وأصبحت المتاجر تدار عن طريق موظفين لهم نسبة في الأرباح تضاف إلى مرتباتهم.
ما هو الشيء الجديد الذي أحدثته الثورة الماركسية؟ لقد حولت الأجراء من أجراء لرب العمل الخاص إلى أجراء الدولة، ونفت أن يكون ذلك ظلما أو غبنا. فالأجراء بدل أن يكونوا تحت هيمنة واستغلاليين الرأسماليين الاستغلاليين يجب أن يخضعوا لدولتهم..
والانتاج يجب أن يعود إلى المجتمع إلى( الدولة الماركسية ) بعد أن كان حكرا مستغلا لمصلحة الاقطاعيين والرأسماليين والأرض تملكها الدولة بدل أن يملكها الاقطاعيون..
وهكذا حدث انقلاب على الرأسمالية ولكنه ليس تغييرا اطلاقا.
ما هي فوائد هذا الانقلاب بالنسبة للعمال؟
- لم يتغير شيء بالنسبة للعمال فما زالوا يعملون ساعات معدودة ويستقطع قدر كبير من هذه الساعات منهم، بغض النظر عن الجهة المستفيدة من هذا الاستقطاع، وكيف يستثمر بعد ذلك.
ولكن العامل ما زال أجيرا يعمل عددا من الساعات وتعود له ساعات أقل من التي اشتغلها، وهو لا يزال يدار بواسطة غيره.
إن الشعب في ظل النموذج الماركسي لا يستطيع التصرف في الأرض ولكن الحكومة هي التي وضعت يدها على الأرض وتحل مشكلتها بالطريقة التي تراها، فتستطيع إلغاء المزارع الخاصة وتحولها إلى تعاونيات أو إلى مزارع جماعية أو تحولها إلى مزارع تابعة للدولة.. وتستطيع ابقاءها على حالها.
ووسائل الانتاج جميعا تكون مملوكة للدولة الرأسمالية بدل الطبقة الرأسمالية، وبتعبير أدق فإن جميع ما كانت تقوم به الطبقة الرأسمالية في النموذج الرأسمالي صارت تقوم به الدولة الماركسية. كذلك فإنه سيكون للدولة الماركسية نفس مصير الطبقة الرأسمالية.. لماذا؟ لأن الدولة الماركسية ورثت الطبقة الرأسمالية في جميع صفاتها وواجباتها ونفس تصرفاتها..
وتحس الدولة الماركسية بأنها وريث الطبقة الرأسمالية فحاكتها حتى ماثلتها تماما فوصلت إلى ما وصلت إليه في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وفي عدد من المواقع في الاتحاد السوفيتي. إن نفس المواجهة الشعبية(أو ثورة الشغيلة)-التي قام بها العمال الطرف الأساسي في قوى الانتاج-وواجهوا بها الطبقة الرأسمالية بدأوا الآن يواجهون بها الدولة الرأسمالية في النموذج الماركسي.
إن أطراف قوى الانتاج في النموذج الأول موجودة في النموذج الثاني لم تلغ، وما زالت كما هي أطراف متعددة متضافرة ضمن علاقة انتاجية غير سليمة، يزج أطراف ليست قوى انتاجية أصلا. كارباب العمل والادارة الحكومية. في الوقت الذي تدار فيه قوة الانتاج الأساسية بواسطة غيرهما.
لم يتغير شيء بين النموذجين، ورغم ذلك لا يعتبر الذين صنعوا الانقلاب الماركسي أنفسهم تكرارا للرأسمالية بوجه آخر من وجوهها،ولا يعتبرون انقلابهم خطوة إلى الوراء بل يصرون على اعتباره عملا تقدميا وحركة إلى الأمام إذ يتصورون أنهم وجهوا ضربات نهائية ضد القوى الاستغلالية لصالح الدولة الاشتراكية، ودمروا المصالح الذاتية الأنانية المتحققة من خلال النشاط الاقتصادي الرأسمالي لفئة محددة على حساب المجتمع. وأرسوا برنامجا تربويا يضحى بالمصالح الأنانية ويقتل بواعث المصلحة الذاتية الفردية النفعية في الانسان، ظنا منهم إن ذلك سيتوج الانقلاب الماركسي بالنصر وتحل مصلحة الدولة محل المصالح الذاتية للأفراد، ولكن الأفراد يتشبثون بمصالحهم الذاتية بكل القوة، إذن يجب محاربة الجانب الغريزي في الانسان، والعمل على انضاب التراث من ينابيعه- كما يقولون في الصين- حتى تنقطع كل الجذور التربوية والنفسية لدى الانسان فينفصل عنها ويتقبل الوضع الجديد- الذي برسخ الدولة الماركسية.
وهم يعتقدون ان هذا الاجتثاث من الجذور يجعل تطويع الانسان سهلا للتكيف مع النموذج الماركسي.
فالإنسان الذي يحب الملكية ويرغب تحقيق مصالحه الذاتية يتصادم حتما مع الدولة إلى تريد كل شيء لمصلحتها، أما إذا قتل هذا الجانب في الانسان فسيخلق انسان آلي تماما.
وبوضع الاصبع على زر بعينه يتحرك البشر الآليون ليجمعوا الانتاج ويكدسوه في المكان المحدد بالضبط مثل النمل! انسان آلي لا ياكل ولا يشرب ولا يحب؟ ولا يحلم ولا يتمنى ولا يرتاح.. لا يتفوق ولا يتألق.
والنتيجة هي إن هذا الحل الجدي واجه صعوبات جمة منذ قيامه، وكان الفضل في بقائه راجعا إلى العنف غير المتناهي.
وهو ما أثبت أن الحل الماركسي يترتب عليه ضرورة وجود قبضة حديدية فوق رؤوس الناس في المجتمع يستمر تأمين هذا الحل. ولو أحس الناس بأن هذه القبضة قد رفعت عنهم لعادوا إلى تحقيق مصالحهم الخاصة. وهكذا فان الاتجاه في المجتمع الماركسي يؤدى إلى قيام دولة قوية تملك السلطة والثروة والسلاح،حكومة قوية بيدها السلطة والثروة والسلاح حتى تتمكن من اجبار الناس كلهم على التنازل عن مصالحهم الذاتية والعمل من أجل الشيوعية.
وقد أدى هذا الوضع في الجانب السياسي إلى قيام أداة حاكمة واحدة هي الحزب الشيوعى، حتى تضمن ان تقبض على المجتمع بقوة، وتسيره في الاتجاه الجديد نحو الشيوعية. فأخطر شيء على المجتمع الماركسي هو الحرية السياسية لأنها تؤدى إلى أن تنتزع الناس القوة وتمسك بالزمام فتدمر بذلك سيطرة الحكومة الماركسية.. ومن هنا جرى العمل على خلق أحزاب شيوعية قوية ليضمنوا السيطرة على المجتمع واعتبروا أي منافسة للحزب الشيوعي في أي دولة ماركسية ردة وعمالة للامبريالية. بل إنهم حاربوا تلك البلدان الماركسية التي اعترضت على هذا الأمر واعتبروها مدخلا معاديا للمجتمع الماركسي تستغله الامبريالية ضد القوى التقدمية.
فيوغسلافيا تعرضت للنبذ لأنها رفضت هذا الحل الجدي.. والصين تعتبر الآن مرتدة بالكامل في نظر الماركسيين.. وفي بولندا تعتبر الأحداث العمالية هناك غاية في الخطورة فاستقلال نقابات العمال واتجاهها لخلق كيان عمالي رافض لهيمنة الحزب الشيوعي البولندي يعد مأزقا حقيقيا للماركسية كلها؟. وهى أحداث يمكن تفجرها أيضا في رومانيا وهنغاريا بل وفي الاتحاد السوفيتي نفسه.
هكذا فان الدولة-الحكومة- تحل محل الطبقة الرأسمالية في السيطرة على الاقتصاد وتسخير النشاط الاقتصادي لمصلحتها..
- إن الدولة الرأسمالية تسخر كل شيء لمصلحتها وتتصرف كما لو كانت هي نفسها الطبقة الرأسمالية.
فالحكومة في ظل الطبقة الرأسمالية تقوم بمهام حماية الرأسمالية والحفاظ على أمنها ووجودها وهى لذلك لاتسمح بقيام مجتمع ماركسي في أمريكا أو بريطانيا. فالحكومة في ظل مجتمع الرأسمالية تحتفظ بالسلطة السياسية والاقتصادية لخدمة النظام الرأسمالي ولا يمكنها أن تكون محايدة بينه وبين أي نظام يمكن أن ينشأ على أنقاضه فهي تلتزم بالحفاظ على التركيبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمع الطبقة الرأسمالية بما يضمن استمرار المصالح الاقتصادية واستثمار النشاط الاقتصادي لمصلحة الرأسمالية.
وهو ذات الدور المنوط بالحكومة الماركسية، فمهمتها هي الحيلولة دون قيام نظام بديل عن الماركسية، ومحاربة القوى المضادة لها بالاضافة إلى قيامها بتثبيت رأسمالية الدولة وحمايتها، مما يجعل خلق أداة سياسية لتحقيق ذلك ضروريا. وهنا نشأت ديكتاتورية الحزب الشيوعي على المجتمع.
والنتيجة إنه ليس هناك اعتبار للديمقراطية في النظامين كليهما. بل إن الاعتبار كله ينصب على تأكيد المصالح الاقتصادية للطرف السائد، وهو الطبقة الرأسمالية في المجتمع الرأسمالي والحكومة الرأسمالية في المجتمع الماركسي وإذا تفحصنا الجانب السياسي في النموذجين نجد أنهما يتماثلان كلياً إذا استثنينا بعض الفروقات الشكلية فمثلا نجد في النموذج الأول شعبا وحكومة كذلك نجد في النموذج الثاني شعبا وحكومة كما نجد تماثلا شديدا فيما يخص الشرطة والجيش وغبر ذلك من الادارات الحكومية..
وحتى إذا كانت الحكومة في النموذج- الأول تصنعها الطبقة الرأسمالية لخدمة مصالحها والمحافظة على استثماراتها.
فإن الحكومة في النموذج الثاني هي أيضا لا يخلقها الشعب بل هي حكومة الحزب الماركسي.. وحتى لو صدقنا بأنها حكومة عمالية، قام العمال بصنعها، فإن وجود حكومة يجعل تركيبة المجتمع تماثل المجتمع الرأسمالي بوجود حكومة وشعب، إن الرأسماليين أنفسهم يتحدثون عن خدمة الشعب ومصالحه والدفاع عنه، ولكن ذلك لا يعنى إلا الرأسماليين الذين يستغلون الطبقة العاملة لخدمة مصالحهم. موكلين مهمة حماية هذا النظام إلى مؤسسات الجيش والشرطة التي خلقوها لضمان استمرار النظام الرأسمالي.
أما في المجتمع الماركسي فإن الحكومة الرأسمالية تسيطر على رأس المال بعد أن انتزعته من الطبقة الرأسمالية بالثورة مدعية أنها تقوم بذلك لمصلحة الشعب، الذي يعنى هنا أولئك الكادحين الذين خلقت منهم جيشا عقائديا موالياً لها وحامياً لوجودها بحجة إنها لمصلحتهم، وحتى إذا صدقنا ذلك فإن دور هؤلاء الكادحين لا يتعدى دور الجيش الذي يدين بالولاء للحكومة الرأسمالية ويخوض الحروب من أجل تحقيق مصالح الرأسمالية إذن فان الأوضاع لم تتغير في النموذجين الرأسمالي والماركسي، ففي كلا المجتمعين ظل هناك شعب وحكومة وجيش وادارة عامة وخاصة.. وغيرها على الصعيد السياسي، أما على الصعيد الاقتصادي فقل ظل الأجراء وأرباب العمل، والطبقة الرأسمالية والحكومة الرأسمالية، أما العمال فينتجون في كلا المجتمعين ويذهب جزء من انتاجهم لمصلحة الرأسمالي الفرد أو لمصلحة الحكومة الرأسمالية.
إنه لو كانت هناك مفاضلة بين النموذجين اللذين ندرسهما ولا يوجد لهما بديل ثالث فإن النموذج الماركسي يكون أفضل من النموذج الرأسمالي، لأنه يحقق مصالح للدولة كلها رغم ما يقدمه جميع أفراد المجتمع من تضحية كبيرة لصالح الدولة.
فرص العمل:
أما فيما يخص البطالة وفرص العمل في النموذجين
- مجال دراستنا- فنستطيع توضيح الفرق بينهما إذا مثلنا فـرص العمل في النـموذج الأول -المجتمع الرأسمالي- بخط بياني متموج يبدأ من الصفر أحياناً ويصعد عنه بعض الأحيان، فيتوزع فوقه العاملون عشوائياً فلا يتحصل كل أولئك الذين وقع ترتيبهم على الصفر وعلى الأرقام القريبة منه على أي فرصة لايجاد عمل، في الوقت الذي يتحصل فيه غيرهم على فرصة أو أكثر..
وهو ما نلاحظه حين يتجمع هؤلاء الذين فقدوا فرصهم في العمل في شوارع المدن الرأسمالية ويقومون بالمظاهرات ضد النظام الرأسمالي الظالم الذي حرمهم حقهم في الحصول على فرصة عمل، تكافيء ما تحصل عليه غيرهم.
إننا يمكننا أن ندرك مدى الظلم الذي لحق بهؤلاء، إذا قدمنا مثالا لذلك الذي تحصل على أكثر من فرصة حارماً غيره من أي فرصة بالرأسمالي صاحب العمارة المحتوية على ثلاثين شقة.. في نفس اللحظة التي يوجد فيها ثلاثون أسرة من مواطنيه بلا أي مأوى. إن حصتهم من ثروة المجتمع قد نهبها مواطنهم صاحب العمارة بفعل احتكاره للفرص الخاصة بهم.
ومثال آخر: لنفرض أن الأرض الصالحة للزراعة يمكن تقسيمها بالنسبة إلى عدد الفلاحين بحيث تكون مساحة كل مزرعة هكتاراً واحداً مثلا.
فإذا استولى أحدهم على مزرعة مساحتها عشرة هكتارات، فإن هذا يعنى حرمان تسعة مزارعين من مواطنيه حقهم في تملك مزارع، وبالتالي حرمانهم من مصدر رزقهم ومكابدتهم للبطالة، فإذا ما كرر أفراد آخرون نفس فعله فإن كثيرين من المزارعين لن يتمكنوا من الحصول على مزارع يعملون فيها لأنفسهم.
وكثيراً ما يقوم الذين احتكروا فرص الآخرين في العمل ونهبوا حقوقهم بتأجيرهم للعمل في نفس المواقع التي انتزعوها منهم وهؤلاء يقبلون ذلك مضطرين بدافع الفقر والحاجة خالقين بهذا طبقة رأسمالية وأخرى مستعبدة لها.
الخط البياني لفرص العمل في النظام الرأسمالي:
قمة الفرص - قمة قمة قمة
لا فرص - صفر صفر صفر صفر
(حضيض الفرص)
كما أننا نمثل لفرص العمل في النموذج الثاني- المجتمع الماركسي- بخط مستقيم، أي بمد الخط البياني المتموج المرسوم اعلاه أفقيا، فتتساوى الفرص جميعها، وقد تنعدم البطالة.. فإما أن تكون جميع الفرص صفرا أو تكون رقما آخر متساويا بالنسبة لجميع العاملين.
إن مد هذا الخط البياني أفقيا على استقامته يهبط بأولئك الذين في قمة الفرص وينهض بالذين في الحضيض، فيتساوون جميعا في فرص العمل ولكنهم يعيشون على الحد الأدنى حتى يوفروا فرصة عمل لكل قادر عليها. هذا هو الانقلاب الذي أحدثته الماركسية في هذا المجال فقد تركز على مساواة العمل الذهني بالعمل العضلي فلا فرق بين الطبيب والمهندس والعامل اليدوي.. وغيرهم.. فهم جميعا يتحصلون على فرص عمل متساوية.
مثال للتوضيح:
إذا أردنا أن نقسم مائة دينار على عشرة اشخاص فإننا نعطى كل شخص عشر دينارات، وهذه قسمة عادلة، فلو تمثلنا المجتمع الرأسمالي فإن هذه المائة دينار، يتم توزيعها على شكل غير عادل فسنجد بان واحداً من العشرة قد تحصل على خمسين دينارا وواحداً على عشرين وثلاثة كل تحصل على عشرة.. والباقون نالوا صفراً..
لماذا تحصل هؤلاء على صفر ولم ينالوا شيئا من ثروة المجتمع؟ لأن حصصهم أخذها آخرون.. فبدلا من أن ينال كل حصته استولى احدهم على خمسين والآخر على عشرين..
إن ذلك يعني مباشرة الاستيلاء على نصيب الآخرين في الثروة.. فتحصل أحدهم على عشرين يعني تحصل آخر على صفر.. إن الذي تحصل على خمسين أو ثلاثين أو عشرين يعد غنيا في النظام الرأسمالي ولكنه غنى على حساب عشرات الفقراء غيره ممن استولى على حصتهم في فرص العمل وثروة المجتمع.
ويتباهى اصحاب النظام الرأسمالي بأنه قد وجد لديهم عامل غنى لكنهم يتجاهلون الذين اصبحوا فقراء بسبب غنى هذا العامل الذي استولى على نصيبهم من فرص العمل وثروة المجتمع.
- ويتباهى الماركسيون بأنهم قد قضوا على البطالة ووفروا فرص عمل لكل القادرين عليها.. وهم يتجاهلون في هذا عجزهم عن تحقيق رفاه العاملين واشباع حاجاتهم مكتفين بتوفير فرصة عمل لكل منهم، مضطرين ليحققوا هذه الغاية إلى حرمان كل منتج جزءاً من انتاجه يقتطع منه لصالح الدولة الماركسية.. إنهم يحددون القدر الذي يجب على كل فرد استهلاكه ويقتطعون قدراً من انتاج الكادحين ملزمينهم العيش على الحد الأدنى من المعيشة مع الاستمرار في العمل.. فالغاية في هذه المرحلة من الماركسية ليس تحقيق الرخاء وإنما الغاية من الكدح هو الانتقال إلى الشيوعية.. ولذلك.. فإن القتل الجماعي مباح للذين يتقاعسون عن الانتاج.. وسلب الملكية.. وقتل الغرائز.. والعيش على الكفاف، وعدم التفكير بالضروريات المعيشية وتحريم التفكير بالكماليات.. كلها أمور مباحة في مرحلة الانتقال إلى الشيوعية.. بل يجب أن تعمل اقصى ما تستطيعه وأكبر عدد من الساعات مع اقتطاع جزء كبير من انتاجك لصالح قيام الدولة الشيوعية..
ولكن لماذا؟
لتصل الدولة الماركسية إلى تحقيق شعار من كل حسب جهده ولكل حسب حاجته.
ولكن متى؟..
عندما يحقق الانتاج الوفرة، فيتكدس صانعاً فردوساً أرضيا حقيقيا.!
فهل يتكدس الانتاج حقاً؟
لن يتكدس شيء من الانتاج وهو يستهلك في حينه،
ولم تستطع أية دولة أن تستبقى لديها أي محزون لصالح الشيوعية، بعد عشرات السنين من تطبيق الماركسية. فكان أن ساد اتجاه جديد هو التفكير في توفير الضروريات للناس وحتى توفير الكماليات لهم بعد أن اتضح استحالة وجود بشر ينتجون عشرات السنين ويرضون بالحد الأدنى من انتاجهم ليعيشوا به على الحد الأدنى من المعيشة مقابل تنازلهم عن جزء كبير من انتاجهم لصالح الشيوعية وتنازلهم عن حريتهم كلها لصالح الحزب الشيوعي!
إن هذا التوجه الجديد هو الذي خلق المقاومة للثورة الصينية مما دفع ماو بعد ذلك إلى إعلان ما عرف بالثورة الثقافية.
ودفع جميع الدول الماركسية إلى الأخذ بمفهوم الحوافز الذي جعلهم يتوجهون لدراسة المؤسسات الرأسمالية في أمريكا وأوربا الغربية محاولين بذلك إدخال نظام مشابه منقول عن المؤسسات الرأسمالية وتطبيقه في المؤسسات الماركسية. فإذا تحقق ذلك فإن أخر خيط من خيوط الأمل في الماركسية يعتبر قد انقطع نهائيا وإلى الأبد. وتنتهي إلى مجرد انقلاب عادى يحدث داخل لدولة رأسمالية، تكون نتيجته استيلاء حزب واحد قوى على السلطة في ذات الدولة الرأسمالية، ذلكم هو الحزب الشيوعي، الذي عليه أن يلغي الملكية الخاصة، ويستخدم الناس أجراء لدى الحكومة إلى يصنعها.. وتقوم هذه الحكومة نفسها بتقسيم الانتاج، وتحديد القدر الذي تريد ادخاره منه فهي مضطرة بعد كل شيء إلى توفر جزء من جهد الشغيلة بالقدر الذي يفي بمصاريف الدولة العصرية ورفع قدرتها الدفاعية في مواجهة النقيض.. الذي هو الرأسمالية.. وهكذا وصلوا إلى طريق مسدود لا سبيل إلى الخروج عنه الا بابتداع حذلقة فلسفية فحواها استحالة الشيوعية واستحالة تحقق طموحاتها( العظيمة ) ما لم يقض على النظام الرأسمالي كله، فظهر اتجاه فكرى وعملي في الاتحاد السوفياتي،وبعد ذلك في بقية المنظمات الماركسية يعد العدة للقضاء على النظام الرأسمالي والامبريالية في العالم، ويرى اصحاب هذا الاتجاه إن وجود نصف الأرض تحت هيمنة القوة الامبريالية لن يجعل النصف الآخر يصل الشيوعية اطلاقا، بسبب اضطراره للدخول في صراع محاكاة ومزاحمة لا ينتهي أبداً.
وقد سيطرت هذه الفكرة في الاتحاد السوفياتى حتى عهد خروتشرف وسيطرت في الصين خلال حياة ماو وشواين لاى وبروز جماعة نينغ بونغ، وقد كانت العقيدة السائدة آنئذ هي أن الحرب حتمية بين الرأسمالية والماركسية، تصل إلى مستوى الحرب الذرية، وكانوا يعملون على هذا الأساس لاعداد أنفسهم لحرب حتمية لا محيد عنها، بل إنهم اعتبروا أية دولة لا تعد نفسها لهذه الحرب خلال عشرين سنة دولة خائنة لقضية الماركسية اللينينية.
أما في بداية الثمانينات فقد قدم الصينيون تحليلا جديداً كان له الأثر الكبير في العالم كله.. فقد أعلنوا أن الصين تبشر العالم بفساد المقولة التي تجعل الحرب حتمية بين الرأسمالية والماركسية، وإن هذه المقولة قد ثبت خطأها وبطلانها، وصار من حق العالم أن يعيش في وئام.
وقد كان خروتشوف يرى ضرورة أن تكون روسيا دولة قوية في مواجهة امريكا الدولة القوية الأخرى، ويعتقد بأن على روسيا التي تخلفت أن تحاكى امريكا وتنفتح عليها وتتعامل معها.
وقد حدث انفتاح كبير حينذاك خشى الماركسيون أن تعقبه ردة عن الماركسية وعقائدها، فقاموا باسقاط خروتشوف، ولكن المحاكاة للنظام الرأسمالي الأمريكي استمرت سرية واستمرت معها نفس السياسة التي تعتمد التعايش مع النظام الرأسمالي العالمي مع التحفظ- طبعاً- على المبررات التي أدت إلى سقوط خروتشوف.. فاتفاقات الحد من الأسلحة الاستراتيجية كاتفاقية سولت ا وسولت 2 واجتماعات هلسنكى المتكررة واللقاءات التي تتحاور فيها الدولتان الأعظم بشان توزيع الأسلحة أو الحد من سباق التسلح، أو تلك التي عرفت في فترات متأخرة بالوفاق الدولي والانفراج ليست سوى استمرار لسياسة التعايش تلك التي تنسف المعتقد الماركسي التقليدي من أساسه، فارضة نفسها رغم كل الآراء النظرية التي صيغت في فترات سابقة.
وصارت تلك الآراء النظرية الماركسية أشبه بمن يحرث البحر! أو يخط باصبعه على الرمال! لماذا؟
لأن هناك نظاماً رأسمالياً يفرض تحدياً على الماركسية. كان الماركسيون يعتقدون بأنه سيسقط حتف انفه منذ زمن بعيد.. ولكنه لم يسقط، واستمروا في صراعهم ضده، وظلوا يأخذون من الشغيلة أكبر قدر من جهدها لمواجهة برامج مفروضة عليهم. وهكذا تلاشى الأمل في تحقيق الشيوعية، ولم يبق شيء يمكن توفيره لصالحها بعد أن استهلك كل شيء في بناء الدولة العصرية التي تستطيع مواجهة الدولة الرأسمالية العصرية القوية.
ولو شئنا أن نضرب مثلا بدولة كالمانيا الشرقية مثلا ، فهي لا تستطيع تكديس انتاجها لصالح الشيوعية مادامت المانيا الغربية موجودة إلى جانبها تزداد قوة كل يوم وتحتل المرتبة الرابعة بين الدول الصناعية في العالم كله. مما يضطر المانيا الشرقية إلى إنفاق مجهود جبار في بناء دولة عصرية صناعية قادرة على الثبات في مواجهة المانيا الغربية، وتصبح مضطرة حتى إلى محاكاتها في أشياء تعتبر برجوازية بالمنطق الماركسي كإقامة إذاعة مرئية ملونة وحدائق ترفيه وغير ذلك، علاوة على مشاريع التسليح والانفاق على الدفاع ومشاريع التصنيع، فقد فرض المسلك البرجوازي نفسه وحتم أن تقوم الحكومة الماركسية بانفاق ما تأخذه من الشغيلة على المجالات العسكرية وبرامج الفضاء وخطط الدعاية الاعلامية وللإنفاق الإداري. ولبناء دولة عصرية قوية.
لقد تلاشى الأمل حقاً في تحقيق الشيوعية باستحالة تكدس الإنتاج، ولكنهم شاءوا أن يجدوا مخرجاً من هذه الدوامة برفعهم لشعار( تدمير الرأسمالية أولا، ثم نستطيع بعد ذلك تكديس الانتاج ).
ولكن هل هناك حقا اتجاه نحو الحرب مع الرأسمالية؟ إن الاتجاه إلى تدمير الرأسمالية يتناقض مع اتفاقيات الحد من الاسلحة الاستراتيجية ( سولت واحد ) و( سولت اثنان ) ومع ميثاق هلسنكى.
بل إن أكبر ما يخشاه المجتمع الماركسي هو الحرب، فروسيا لا تقبل ابداً الحرب مع امريكا ولا يمكن أن تبادر بها تحت أي ظرف ولا استجابة لأي اعتبار، فقد كان الرأي الرسمي للاتحاد السوفياتى دائما هو أن الحرب يجب استبعادها بين دولتين تملك كل واحدة منهما ما يكفى لتدمير الأرض عشر مرات. وينصحون الدول الصغيرة بمراعاة هذه الحقيقة، وهى إنهم لا يرغبون الحرب بل يخافونها.. وهكذا لا سبيل إلى تدمير الرأسمالية وينقطع الأمل في الطريق الثاني أيضاً.. ذلك الذي رفعوه شعاراً لتحقيق الشيوعية، ولا يكون ثمة طريق سوى التعايش بين الرأسمالية والمـاركسية. غير أن المـاركسيين قـادرون على الخروج ( كماركسيين ) من كل أزمة فكرية وعلمية قاتلة يقعون فيها نتيجة المعطيات الجديدة أو التحليلات العلمية السليمة كهذه التي قدمناها هنا.
ورغم أن ما قدمناه يعد كافياً لنسف الاطروحات الماركسية إلا أن الماركسيين سيبقون ماركسيين دائماً.. !
لماذا؟
اولاً: لأن الماركسية هي أساس وجودهم مهما كانت فلا يستطيعون اعلان فشلها، فقد عملوا ما عملوا لأنهم ماركسيون وشيوعيون.
ثانياً: تعود الشيوعي في كل مرة يصاب فيها بخيبة أمل حقيقية كافية لنسف معتقداته أن يأتي بتبريرات تبقيه على قيد الحياة( كشيوعي ).. وهكذا يقدمون تخريجاتهم باستمرار عند كل موقف لا يمكن لمعتقداتهم تجاوزه.
وقد أصبحت الماركسية مثل الرأسمالية في كل شيء، فكلما كذبها الواقع ودحضها التحليل وجه الماركسيون التهمة باتجاه التطبيق يتهمونه بعدم فهم الماركسية، وعدم تمثل قوانينها التي لا تخطيء أبداً ! وهو ما لجأوا إليه عندما فسروا حركة العمال في بولندا، حين قالوا.. إنهم اخطأوا في فهم الماركسية ودعهم يدفعون الثمن.. ويجب أن يدفعوا ثمن عدم تقيدهم بالقوانين الماركسية.
وهم يشيرون بذلك إلى أن المسئول عن تلك الاضطرابات التي انتهت ببولندا إلى بروز حكومة عسكرية هو العناصر الماركسية التي لم تتقيد بالماركسية! ولـكن لماذا لم يعـلنوا ذلك منذ البدايـة؟ لقد كان( جيريك )- في نظرهم- افضل المناضلين الشيوعيين الذين يقال عنهم بأنهم يسيرون حسب الماركسية اللينينية. ولم يوجه له أي نقد في أي مؤتمر حزبي بما في ذلك المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي البولندي المنعقد قبيل تفجر الموقف مع العمال.
ولكنهم سرعان ما وصموه بمخالفة الماركسية اللينينية بمجرد انفجار الموقف واختفائه عن المسرح السياسي. وبهذه الطريقة الجدلية المستندة إلى المنطق الصوري يستطيع الماركسيون المحافظة على بقائهم واستمرار حركتهم.
وهكذا تستمر الماركسية أيضاً باستخدامها لوسائل مختلفة وتستمر إلى جانبها الرأسمالية التي لا أمل في القضاء عليها فكان التعايش حتميا بين النموذجين. وكان لابد للماركسية من محاكاة الرأسمالية حتى أن المحللين لا يجزمون عادة ما إذا كانوا في روسيا أو في الولايات المتحدة أو في المانيا الشرقية أو الغربية لأن كافة مظاهر الحياة متطابقة مشابهة. ويصعب التمييز بين المؤسسة الماركسيةمثلها الأعلى المؤسسة الرأسمالية. فستجد عمالا مضربين هنا وعمالا مضربين هناك يطالبون جميعا بزيادة اجورهم و بثورة ضد الادارة المتحكمة في رقابهم في النموذجين معا. ففي بريطانيا وفي تشيكوسلوفاكيا تجد المنشقين المطالبين بالحرية.
وحين يكون أمامنا هذين النموذجين اللذين قمنا بدراستهما هنا. كيف يتسنى لنا القول بأن العالم قد تغير! وقد تكررت كل المظاهر التي وجدنا، في النموذج الأول لنجدها هي ذاتها أو مع تعديل طفيف في الشكل في النموذج الثاني أيضاً. وعلينا أن نقرر اخيرا بأن ما حدث كان مجرد انقلاب شكلي فقط .
ماهية التغيير:
يجب أن نقول بأن نضال الانسان من أجل الحرية والتقدم لم يتوقف عند النموذجين المشار إليهما، بل اصبح في ايدينا وضع ثالث فرض نفسه كحقيقة ماثلة على حياة عالمنا المعاصر ويتوجب علينا أن ندرس هذا الوضع الثالث ونحلل بنيته، لنقرر في نهابة المطاف ما إذا كان الانسان قد تمكن أخيراً من الوصول إلى غايته بعد نضال عميق، خاضه لتحقيق حريته وسعادته، ونعنى بذلك إنه قد أمكن أخيراً إحداث التغيير المطلوب في المجتمع البشرى وأمكن أن تنتزع التغيرات الجديدة هذه، رضى الإنسان عنها ورغبته في تحقيقها واقعاً يعيشه، مسجلا بذلك انتصاره النهائي على عوامل القهر كلها دفعة واحدة.
فإذا ما تناولنا بالدراسة النشاط الاقتصادي في النظرية العالمية الثالثة أو في ظل، هذا الوضع الثالث الذي انبثق اخيراً على انقاض النموذجين السابقين، ووجدنا العلاقات التي تحكم أطراف قوى الانتاج قد تحطمت تماما. في نظام اقتصادي جديد اختفت فيه تلك الأطراف ذاتها، ولم يبق سوى المنتجين متحولين بفعل ثورة المنتجين. إلى شركاء في الانتاج يملك كل منهم انتاجه الخاص ملكية مقدسة. وقد فرغوا لتوهم من القضاء على أرباب العمل مسيطرين عن طريق مؤتمراتهم الانتاجية على إدارة منشآتهم الانتاجية أيضاً خالقين لجاناً شعبية تنفذ قراراتهم التي صنعوها في مؤتمراتهم الانتاجية.
إذا وجدنا ذلك فإننا سنعلم يقيناً بأن ما حدث هو تغيير حقيقي وليس انقلاباً.. حيث إن الإدارة قد اختفت، واختفى أرباب العمل نهائياً. واختفت العلاقات المتحكمة بقوى الانتاج المختلفة مع صالعيها أولئك الذين خلقوا هذه العلاقات ليسرقوا إنتاج المنتجين لمصلحتهم الخاصة أو لمصلحة حزبهم.
إن علاقة العمل بين الدولة وبين الشغيلة التي وجدناها في المجتمع الماركسي حيث تتحكم الدولة بالشغيلة فتحدد لهم ساعات العمل. وحصصهم في الارباح، ومشاركتهم في الادارة.
هذه العلاقة تحطمت في ثورة العمال وبتحولهم إلى شركاء.. وماتت العلاقة التحكمية والاستغلالية بين العمال وبين أي طرف آخر، واصبحوا في غنى عن جميع الأطراف.. وانتهت نهائيا علاقات الانتاج بين أطراف قوى الانتاج.
أما فيما يخص قضية الادارة فقد انتهت من أساسها باستيلاء العمال عليها في جميع المنشآت الانتاجية سواء ذات الادارة الحكومية أو تلك التي يديرها القطاع الخاص. وصارت الادارة عمالية وشكل العمال في كل منشاة انتاجية مؤتمراً إنتاجاً، يملك سلطة القرار الإنتاجي، واختاروا لجنة عمالية إدارية تقوم بالأعمال التنفيذية.. ويقوم المنتجون في المصانع بتطبيق نظام المشاركة حيث يأخذ حصتهم ويقدمون للمجتمع حصته.
وليس هناك أي طرف آخر في المصنع. كرب العمل. أو الادارة أو علاقة الانتاج.
وبذلك انتهى الصراع داخل المصنع لأن العمال قد زحفوا على المصنع وسيطروا عليه بالكامل وأقاموا مؤتمرهم الشعبي الانتاجي فيه وشكلوا لجنة شعبية لإدارية. تخلصوا من الأجرة واصبحوا شركاء في الإنتاج.
وهكذا نجد أن وضعاً جديداً قد نشأ وإن جميع ملامح الوضع القديم قد اختفت نهائياً.
أما بالنسبة لقضية استثمار الانتاج فهي لم تعد مشكلة على الاطلاق مادام كل منتج يأخذ انتاجه الخاص.. أي ينال حصته الخاصة في إنتاج المنشأة الانتاجية التي يعمل بها، وهو حر بعد ذلك في استثمارها.
ومشكلة ملكية الارض التي كانت تتقلب بين يدي الاقطاع تارة وبين يدي جبروت الدولة الرأسمالية تارة أخرى فقد حلت هذه المشكلة بأن أصبحت الارض ملكا للجميع وليست ملكاً لأحد. لأن الملكية الحقيقية للأرض هي ملكية الانتفاع بها. أي أن كل فرد في المجتمع له حق استغلالها بجهده الخاص لإشباع حاجاته. فغاب بذلك الاقطاع وغاب سيد الارض الذي كان يقسمها إلى مزارع جماعية أو إلى تعاونيات خاصة وانتهت جميع أساليب احتكار الأرض. وظهرت كيفية جديدة سليمة تحددها. مقولة " الأرض ملك للجميع ".
أما عن غاية النشاط الاقتصادي فلم تعد مثلما كانت في النموذجين السابقين( زيادة رأسمال الجهة المتحكمة في المجتمع )، وإنما اصبحت غاية النشاط الاقتصادي هي اشباع حاجات الافراد، فلم يعد هناك من يملك وسائل الانتاج التي اصبح انتاجها مقسوماً حسب عناصره الحقيقية وهى المنتجون.. وأدوات الانتاج والمواد الخام المستخدمة في عملية الانتاج.
وهكذا يملك المنتج ما ينتجه بجهده. وتعود حصة الآلات( أدوات الانتاج ) وحصة المواد الخام إلى المجتمع.
وليس هناك من يملك حق توزيع فرص العمل في المجتمع الجديد أو من يملك حق توزيع الانتاج، فالناس في المجتمع الجديد أحرار يسعى كل منهم إلى إشباع حاجاته، دون أن يسخر الغير في ذلك ودون أن يسخره الغير.
وهكذا يعمل الناس أعمالا انتاجية، يحترفونها بحرية تامة دون ضغط من أية جهة خارجة عنهم.
ولكن من يحمى النظام الجماهيري:
لقد رأينا إنه عندما كانت الطبقة الرأسمالية هي سيدة الموقف، وهى التي تقوم بتسخير اقتصاد المجتمع لزيادة رأسمالها كيف قامت بصنع أداة سياسية لحماية نظامها الرأسمالي. كما رأينا عند قيام الدولة الرأسمالية في المجتمعات الماركسية وقد ملكت الثروة بعد أن انتزعتها من الطبقة الرأسمالية فكان عليها أن تصنع أداتها السياسية لحماية نظامها الذي يعتمد رأسمالية الدولة.
أما في المجتمع الجديد-المجتمع الجماهيري- فحيث لم تعد جهة واحدة من المجتمع سيدة للموقف وحدها، بل أقيم نظام ديمقراطي حقيقي، يملك فيه المجتمع نفسه ثروته، صار لازماً أن يكون المجتمع نفسه هو الأداة السياسية المسيطرة على السلطة أيضا.. وهكذا يتمكن الشعب كله إذا سيطر على الثروة فعلا من السيطرة على السلطة التي يتمكن من تسخيرها بعد ذلك لخدمته الخاصة إنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في مجتمع لا تقسم الثروة فيه على الشعب بالتساوي، فإذا تحكمت جهة من المجتمع في الثروة تمكنت هذه الجهة ذاتها من خلق نظام سياسي موظف للحفاظ على مصالحها، مرسخاً تحكمها بالشعب، وبالتالي إقامة نظام ديكتاتوري، مهما وصف بعد ذلك بأوصاف زائفة مخالفة للحقيقة.
ولو نظرنا إلى أي دولة في العالم المعاصر- الذي تسهل علينا دراسته- لوجدنا أن أي جهة قوية في المجتمع لا يمكن أن تسمح بإقامة نظام سياسي لا يخدم مصالحها، فالتجار مثلا والاقطاعيون والمقاولون والسماسرة لا يسمحون أبداً بقيام نظام لا يخدمهم إلا رغم أنفهم، وقد وجدنا أنه حتى تلك الحكومات التي تقوم بتشكيلها مجموعات من الثوار مثل حركة الضباط الأحرار يشكلون حكومات أغلبية أعضاء البرلمان فيها من التجار والإقطاعيين والرأسماليين والسماسرة. ثم تقفز هذه الطبقات إلى الحكومة وما تلبث أن تبتلع الثورة ذاتها.
ولو أخذنا البلاد العربية كنموذج دراسة في هذه النقطة بالذات لوجدنا أن ذلك قد حدث كله وبتفاصيله، فانتكست حركات التغيير الثورية والانتفاضات، دون أن تحقق شيئاً من اغراضها.
وقد استطعنا في ثورة الفاتح العظيم أن نخرج من هذا المأزق الخطير بصعوبة بالغة، وباصرار شديد على أن يتحكم الناس في مصائرهم. فدفعناهم دفعاً للاستيلاء على السلطة ومنحناهم الثقة في أنفسهم وقمنا بحمايتهم ضد الطبقات الرجعية المعادية للشعب، حتى وثقوا بأنفسهم واكتشفوا قدرتهم على حكم أنفسهم.
كيف يستثمر الانتاج؟
رأينا في نظام رأسمالية الطبقة كيف أن المنتجين يستهلكون جزءاً من انتاجهم فقط، أما في نظام الدولة الرأسمالية فإن المنتجين يستهلكون الحد الأدنى من انتاجهم.
ورغم أن الانقلاب الماركسي على الرأسمالية كان يستهدف تخليص المجتمعات البشرية من كابوس الرأسمالية، فقد اتضح أنه لا يفى بذلك، حيث لم تأت الماركسية بحل جديد، وصار هم الماركسيين الدفاع عن انفسهم تحت مظلة الماركسية التي تورطوا فيها، في عالم سيصبح في النهاية برجوازياً، بفعل تسلط الحكومات والأحزاب على الجماهير الشعبية- بالمعنى الجـماهيري-. مما يحتم قيام الثورة الشعبية التي تحطم الحكومات وتفتك السلطة وتنتزعها من الأحزاب، مشكلة مؤتمرات شعبية تقرر ولجاناً شعبية تدير، مدمرة المؤسسات الاقتصادية الرأسمالية، التابعة للدولة الرأسمالية أو التابعة للطبقة الرأسمالية. محققة ملكية المنتجين لإنتاجهم، فيتمكن كل منتج من استهلاك ما ينتج، حيث إن الوضع العادل يشترط أن الذي ينتج هو الذي يستهلك انتاجه. وهكذا يتمكن المنتجون من استثمار انتاجهم لإشباع حاجاتهم، خالقين بذلك عالماً جديداً حراً.
إن نتائج النظام الاقتصادي الرأسمالي( الحر ) هي الاستغلال وظهور الطبقات، وبروز الفوارق الصارخة بينها.. والحروب والاستعمار،
* ففرنسا مثلا تصر على البقاء في افريقيا وخوض حروب متواصلة في كثير من البلاد الافريقية.. لماذا؟.. ذلك أن 75% من موارد فرنسا تنالها من افريقيا، وحين قلنا إن ذلك نهب وسرقة، لم يكن رد فرنسا سوى أن لنا أن نفسر كيف نشاء، وأنهم ليسوا مجانين ليفقدوا 75%. من المواد الخام التي تردهم من افريقيا. بل أنهم حاربوا من أجل ذلك ورتبوا الانقلابات. واجهضوا حركة الثورة والتقدم والتعليم في افريقيا حتى لا يفقدوا هذا المورد.
أما في المجتمع الماركسي فلا يوجد أي اهتمام بمسألة الديمقراطية بل إن الاهتمام كله منصب على حماية سلطة الحزب الشيوعي لضمان بقائها في يده، ويعتبرون أي محاولة لتخفيف الضغط عن الجماهير في الدولة الماركسية خطأ وعملا برجوازيا، واتجاها ليبراليا مضادا للاشتراكية، وهم يصرون أن تشكل المجالس الشعبية( السوفيتات ). من أعضاء الحزب فقط دون غيرهم من أفراد الشعب.
لم نكن لنعطى اهتماماً في حديثنا هذا للرأسمالية باعتبارها نظاما فاسداً متعفناً، ولكننا نهتم بشكل خاص بالماركسية باعتبارها الانقلاب الذي أريد له أن يخلص العالم من شر الرأسمالية غير أنه لم يحقق ذلك كلياً، بل إنه أدى إلى قيام دولة الحزب الواحد التي تعتمد الدكتاتورية أسلوباً وعقيدة. وسجلوها بوضوح كامل في دستور الدولة أيضاً، كنص ثابت لا يقبل التأويل.
ويضيفون بأن تلك الدكتاتورية المعترف بها دستورياً هي ديكتاتورية العمال، ولكن حينما اندلعت مظاهرات العمال في بولندا. اتضح أن الدكتاتورية القائمة هي دكتاتورية الحزب الماركسي وليست دكتاتورية العمال بدليل اصطدام العمال بالحزب الحاكم، إنها دكتاتورية الحزب على العمال، تلك الدكتاتورية التي فرضت على العمال أن ينتجوا أقصى ما يستطيعون متنازلين عن أكبر قادر من هذا الإنتاج لصالحها.
وهكذا فإن الحزب بجيشه وشرطته وحكومته يمارس الدكتاتورية على العمال وليس العكس.
وهم لا يسمحون للعمال بالإضراب ولا بالاعتصام. وقرروا لهم ساعات عمل والزموهم بالعمل خلالها. وحين استطلاع العمال أن يقولوا رأيهم طالبوا بتخفيض أيام العمل إلى خمسة أيام رافضين الأيام المفروضة عليهم من قبل الحكومة الماركسية فاتضح بشكل نهائي أن العمال لم يقرروا شيئاً.. لا أيام العمل ولا ساعات العمل. وأنهم يتنازلون عن انتاجهم غصباً بل إنهم ينتجون غصباً أيضاً.
وهكذا تكون الثورة الشعبية هي الحل الحتمي نتيجة وصول العالم إلى طريق مسدود بفشل الحل الماركسي في تقديم بديل عن الرأسمالية.
إذن فإن ما حدت كان مجرد تقلب عادي..
فالبيت كان لصاحب العقارات الرأسمالية. تحول ليصبح لحكومة الحزب الماركسي ممثلة بالبلدية.
والأرض التي كانت للإقطاعي صارت لحكومة الحزب الماركسي.
والسلطة التي كانت بيد الطبقة الرأسمالية، صارت بيد الحزب الشيوعي.
وحل الجيش الماركسي محل الجيش الرأسمالي، وبقى الإنتاج ملكاً لرب العمل الجديد وهو الدولة الماركسية بدل الطبقة الرأسمالية..
وحلت الإدارة الحكومية محل الادارة الخاصة.
إنه مجرد تقلب عادي من وجه إلى الوجه الآخر.
إن ماركس نفسه أعلن أن الفلاسفة قد حللوا العالم وفسروه ولكنهم لم يغيروه، وكان يعتقد بأنه قادر على تغييره، فاتضح لنا أنه هو أيضاً لم يفعل ذلك.
إن التغيير هو هدف الانسانية لتحقيق حريتها وسعادتها وبناء عالم افضل. ولكن البشر كانوا قد اختلفوا دائماً في تحديد الأفضل بالنسبة لأي منهم.
( تمت بحمد الله )
رجوع