القائد معمر القذافي حالم
كبير، ولا شك أن حلمه هو الذي قاده إلى
إبداع النظرية الجماهيرية، التي أصبحت
واقعا يعيشه و يمارسه ملايين الناس.
واذا كان القائد قد استخدم
حسه العملي، ووعيه التاريخي، وجملة
المعارف والخبرات التي اكتسبها، من
أجل تحقيق هذا الحلم، فما الذي يمكن أن
يضيفه مفكر له هذه التجربة إلى فن
القصة الذي يعتمد أول ما يعتمد على
الخيال؟ لقد مر وقت طويل قبل أن أعرف أن
هاتين القصتين هما من تأليف قائد
الثورة. كنت قد قرأتهما، ووقفت ذا هلا
أمام هذا الإبداع الجديد الذي يمتلئ
بشحنات انفعالية غاضبة، وهذه الصياغة
المتميزة التي تجعل من الغضب طاقة
هائلة قادرة على تفجير اللغة، لإعادة
ترتيب الواقع، وتوظيف"التقنية"
الفنية توظيفا بارعا من أجل الوصول إلى
معالجة قصصية تشحن الوجدان، و تعبئ
المشاعر، وتفيء المناطق الغامضة في
النفس البشرية. من أين لموهبة جديدة في
كتابة القصة أن تحقق منذ البداية هذا
المستوى الرفيع في الأداء و(التقنية)؟
ولم تنته حيرتي إلا بعد أن
عرفت أن كاتب هاتين القصتين ليس إلا
قائد الثورة نفسه، فهو قبل أن يكون
مفكرا وقائدا ورجل ثورة، إنما هو كاتب
بارع، ومبدع له القدرة على تطويع
ملكاته التعبيرية، والاستفادة من
الأشكال الإبداعية التي تستجيب
للأفكار والانفعالات والتأملات التي
يريد تقديمها للناس عن طريق هذه
الوسائط الأدبية. إن ميدان الكتابة
الإبداعية الذي يستلهم أفكاره ونماذجه
من تركيبة قوامها الواقع والتاريخ
والخيال، سيكون أكثر ثراء عندما يجد أن
واحدا من صانعي التاريخ، قد اختار هذا
الشكل الأدبي، وهو القصة القصيرة،
ليكون وسيلته لمخاطبة القراء.
وأول ما نلاحظه ونحن نقرأ هذا
العطاء الفني، أن القائد معمر القذافي
عندما جاء يكتب القصة، لم يكتبها
مستخدما القوالب القديمة، ولم يعتمد
الشكل التقليدي المتوارث، الذي يطالب
بان يكون للقصة حدث مركزي رئيسي، و أن
يكون لها بداية ووسط ونهاية، بكل ما
يرافق تلك الطريقة التقليدية من أسلوب
تقريري، وتتابع تراتبي منطقي للأحداث،
واهتمام بالوصف الخارجي. لقد اختار
القائد معمر القذافي أن يكتب قصة تنتمي
إلى قصة الحداثة، وأن يستخدم"تقنية"
فنية متطورة، وأن يستفيد من آخر
إنجازات التعبير القصصى، وبمثل ما هو
قائد ثوري يمتلئ بهاجس تحطيم القوالب
القديمة، وتجاوز الأطروحات التقليدية
في الفكر والممارسة، فهو أيضا كاتب
مسكون بهاجس الابتكار والتجديد،
والبحث عن بدائل جديدة للصياغات
الفنية العتيقة. ولذلك فقد جاء يكتب
قصة قصيرة تعبر عن هذا التوق الدائم
الى التجديد، قصة تطمح في أن تكون وعاء
يفيض بأعمق ما في الشعور من وميض ونبض
وضؤ وظل، وتسعى إلى طرح أكثر الأسئلة
اتصالا بجوهر الوجود الإنسان، تستخدم
اللغة استخداما حديثا عامرا بالتوتر
والتحفز، تعتني بتقديم العبارة
الشاعرية، والجملة القصيرة، وتهتم
بتصوير العالم الداخلي للإنسان. قصة لا
تشغلها الأحداث والوقائع بقدر ما
تشغلها الإيحاءات والرموز والدلالات.
لا تهتم بنقل الإيقاع الخارجي للحياة،
بقدر ما تهتم بنقل الإيقاع الداخلي من
خلال التداعيات، والحدس، وتيار
الشعور، والاستبطان المتواصل
لانفعالات بطل القصة، ورصد أدق
الخلجات وأكثرها التصاقا بوجدانه، دون
أن يهمل الكاتب التفاعل الخلاق مع
الواقع الحي، فيغمس قلمه في لحمه ودمه،
ويقيم بناءه من الخامات والمواد
الأولية التي يستمدها من هذا الواقع.
إن الإضافة التي يقدمها
القائد معمر القذافي لفن القصة، إضافة
كبيرة وخطيرة، لأنه ياتي إلى ميدان
القصة محملا بتراثه النضالي، ورؤيته
الإنسانية كواحد من أبطال التاريخ،
ورصيده الكبير من التجارب والخبرات
كقائد أممي . ياتي إلى هذا الميدان،
ليكتب قصة متميزة، لا تسعى لإعادة
إنتاج الواقع، أو محاكاته وتقليده،
بقدر ما تسعى إلى تقديم واقع جديد،
يضيف إلى عناصر الواقع تلك الحياة
السرية التي تمور خلف المظاهر
والواجهات، وذلك النبض الداخلي الذي
لا يمكن رصده إلا بعدسة الفن العظيم.
نلتقي في قصة"الفرار إلى
جهنم" باولى شحنات الغضب، هذا الغضب
الذي يتفجر فنا ويحول الواقع إلى
شظايا، ثم يعيد تركيبه و توليفة في
سبيكة فنية، نكتشف من خلالها أن الفرار
إلى جهنم، قد أصبح هو الطريق الوحيد
إلى الخلاص، حيث نقف وجها لوجه أمام
نقاء هذا البدوي الذي جاء من الصحراء،
وهو يحمل فوق ظهره وعدا للآخرين
بالحرية والانعتاق، بحمل بين يديه
شمسا جديدة لهؤلاء الذين تعودوا
الحياة في الأركان الضيقة المعتمة.
ولكن الالتحام بالجموع، وحالة
الاشتباك مع البشر، حتى لو كان الهدف
هو تغيير واقعهم باتجاه الأفضل
والأجمل، يعنى أعباء ومسؤوليات ثقيلة،
ولعله يعنى أيضا درجة من الإحباط
والإحساس بالخذلان، لأن الشمس التي
جاء بها قد يلقى أناسا لا يحبونها. إن
الشمس قد تعشي بعض الأبصار التي لا
تعيش إلا في الظلام، وهي أيضا تكشف
أناسا آخرين لا يستطيعون ممارسة
حياتهم في وضح النهار. ولذلك تتحول
القصة في جزء منها إلى هجائية لنوع من
السلوك نراه موجودا في الحياة، حيث
تبدو جهنم أكثر يسرا، والحياة بها أكثر
راحة لمن يريد الهروب من وجوه هؤلاء
البشر الذين تحولوا إلى ما يشبه كائنات
الغابة. ولعلها بهذه النتيجة تكون قصة
سوداوية متشائمة إذا أخذناها بما يبدو
في الظاهر، ولكننا سبق أن أسلفنا
القول، بان الظاهر يخفي تحته جوهرالا
بد أن نتعب أنفسنا بالاهتداء إليه، فهي
قصة تقرأ باكثر من مستوى، ولعل المستوى
الثاني للقراءة هو الذي يقودنا إلى
معرفة الحياة الداخلية، والايقاع
الباطني، والذبذبات الدقيقة التي تسرى
داخل وخلف السطور المكتوبة، وهذا
الجوهر سوف يتيح لنا أن نرى القصة في
ضوء جديد، فهي ليست تشاؤمية ولا عدمية
كما توهمنا، وجهنم التي يقصدها الكاتب
ليست جهنم العقاب الأبدي في الآخرة،
إنها جهنم أخرى، أكثر انسانية وألفة،
وإلا فكيف تأوي اليها الطيور، وتالفها
الحيوانات المستانسة، إن لم تكن كذلك؟
لقد بدأ الراوي الذي يسرد القصة بالكشف
عن هويته البدوية، ولا بد أن نذهب
للبحث عن مرجعية النص في تلك البوادي،
فعنصر الإحالة جزء أساسي من تكوين هذه
القصة، والإشارات التي أوردها الكاتب
عن طبيعة المكان الذي أسماه جهنم،
ستقودنا بيسر وسهولة إلى البادية،
وإلى بادية سرت بالذات، فالذين
يعرفونها يعرفون أن هناك منطقة بين
شعابها أطلقت عليها الذاكرة الشعبية
اسم جهنم، ربما بسبب القيظ الشديد،
وعدائية أرضها القاحلة، ولكن يد
الثورة التي قادها معمر القذافي،
والتي مسحت باصابع الحنان على المناطق
الصحراوية المجدبة فاحالتها إلى أرض
خضراء، قد وصلت أيضا إلى شعاب جهنم في
بادية سرت، وغرست بها الأشجار، وزرعت
النباتات، وأحالتها إلى واحة عامرة
بالخضرة والظلال. هذه هي جهنم التي
يريد راوي القصة الفرار إليها. إنها(ليست
حمراء كالنار، وليست ملتهبة كالجمر)،
وليس لها من ملامح جهنم إلا بعض
حجارتها البركانية السوداء، ولكنها-وكما
تصفها القصة-واحة تأوي إليها الطيور،
وتأنس إليها الحيوانات البرية.
والراوي الذي ينشد الهدوء والسكينة
والسلام، ويبحث عن قضاء ساعة مع نفسه
التي تاهت منه، لا يذهب إليها إلا لهذا
الغرض، لأنكم-كما يقول لنا-(حاولتم
الحيلولة بيني وبين نفسي، ولكنني
بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم). هذا
الراوي يجد أن المسافة التي بينه وبين
نفسه تختفي عندما يذهب إلى تلك البقعة
البعيدة عن زحام الناس والحياة. هذا هو
جوهر القصة، وفيه إشارة إلى الجوهر
الإنساني الذي تحتفي به القصة،
وتدعونا بإصرار وقوة إلى أن نحافظ
عليه، لكيلا يضيع منا في صخب الحياة
العصرية وزيفها ومراعاتها. إذا فهي
ليست قصة سوداوية، تعادى الحياة،
وتطالبنا بالفرار إلى الجحيم، بل
بالعكس من ذلك، إنها تحتفي بالحياة،
وتحرض القارئ على أن يصون معدنها
النفيس.
وبمثل ما تلفت هذه القصة
أنظارنا إلى ما في حياتنا من قبح
وتشويه، وتدعونا إلى الثورة ضد هذا
القبح وهذا التشويه، فهي تدعونا إلى أن
نتواصل مع أنفسنا، وأن ننتبه إلى وقاية
أنفسنا من أمراض العصر التي تصيبنا
بالانشطار. وليس غريبا بعد ذلك أن
نتوسل لتحقيق هذا الغرض النبيل،
باستدعاء رموز النضال في تاريخنا
الحديث، فترصع سطورها بأسماء عمر
المختار، و سعدون، و عبد السلام أبو
منيار، والجالط، وغيرهم من الشهداء
الذين قدموا دروس الفداء والكرامة
الإنسانية، وسطعت دماؤهم تفيء ظلمة
التاريخ. هؤلاء هم الذين اهتدوا إلى
هذا الجوهر النفيس. والدروس التي
قدموها لنا هي البديل عن جوهرة الحكم
والخوذة الصولجانية السحرية.
وجاءت قصة(الموت) ، وبرغم
استخدامها لذات (التقنية)، واهتمامها
بنقل الإيقاع الداخلي قصة تاملية،
فلسفية، تعتمد أسلوب التأمل، وتقف
أمام تلك القضية التي وقف أمامها البشر
منذ وجودهم فوق الأرض حيارى، يطرحون
بشأنها الأسئلة، ويبحثون عن معنى لها،
هي قضية الموت. إنها معالجة جديدة لهذا
الموضوع الذي كان موضوعا محببا لكتاب
القصة الانفعالية العاطفية، وأعلام
الكتابة(الرومانسية) التي تمتلئ حزنا
ودموعا وألما، وتستدر العواطف
والأشجان. فالموت هنا يأتي دون دموع،
ولا ابتزاز عاطفي، ولا حيل فنية تستدر
عاطفتي الخوف والشفقة، كما في الأعمال"التراجيدية
الكلاسيكية".تستحضر القصة لحظة
المواجهة مع الموت، وتسعى لتشريح
الفكرة باسلوب أقرب إلى مبضع
الجراحين، دون إسراف في الانفعال
والعاطفية، وتعتمد أسلوب التداعيات،
والتدفق الحر للرؤى والأفكار، ويراد
الشواهد التى يقتبسها الكاتب من حياة
والده، فالقصة في محصلتها النهائية،
أنشودة تمجيد للحياة في مواجهة الموت،
برغم أن الموت هو موضوعها، وفي ذات
الوقت فهي احتفاء بذلك الجيل، جيل
الأباء الذي عاش ملاحم النضال، وشارك
في معارك الجهاد، وكابد بصبر وقوة
احتمال قسوة الطبيعة، فسعت هذه القصة
القصيرة إلى تقطير تلك التجارب التى
عاشها الراحل الكبير. ومن أجل احتواء
هذه الحياة الزاخرة، لجأت القصة إلى
استخدام عدد من"التقنيات" من
بينها تكسير تراتبية الزمن، وتكسير
حدود المكان، وارتفعت بهذين العنصرين
من محدود يتهما إلى أن صار هذا الزمن هو
زمن المواجهة بين الإنسان وبين حتمية
الموت، وصار المكان هو العالم الواسع،
باعتباره وعاء لتجارب البشر، بمثل ما
هو وعاء للزمن. وهنا يلتقي شكل القصة
بمضمونها، ليتحقق لها تلاحم الشكل
والمضمون، فقضية كونية تشغل البشر منذ
الأزل، لا يمكن أن يخدمها شكل محدد
بتراتبية الأحداث، ومنطقيتها، وتطور
إلى تحكمه قاعدة البد اية والوسط
والنهاية، قضية كهذه لا تخدمها غير هذه
الحركة الدائرية للمعالجة القصصية،
وهذا الشكل الذي يشبه حلقة تبدأ من حيث
انتهت، وتنتهي من حيث بدأت. إنها ليست
قصة حدث، بقدر ما هي قصة صراع، والصراع
هنا يدور بين الإنسان، وبين أكر
الظواهر في حياة البشر شراسة وقوة، هو
الموت.
والإنسان في هذه القصة، يخوض
الصراع بضراوة، وقد امتلأ بقوة
التحدي، مستعينا بكل موارده الروحية
والمعنوية والبدنية من أجل الصمود في
هذه المواجهة. ومن هنا يكتسب السؤال
الذي بدأت به القصة دلالته الموحية، هل
الموت ذكر أم أنثى؟. إن الموت يستخدم كل
الألوان، ويرتدى كل الأقنعة، ويتنكر
في شكل جندي من جند الغزاة، وبمتشق
سلاح الفتك، أو يتنكر في شكل حية
رقطاء، تنشب نابها الأزرق في جسم هذا
الإنسان، وبان مدعوما بعوامل البيئة
الصحراوية القاسية، أو بظروف المواجهة
المسلحة غير المتكافئة، ومدعوما أيضا
بحقيقة أن الموت هو النهاية الحتمية
للبشر جميعا، ومع ذلك فإن البطل الذي
تتحدث عنه القصة، ينتصر في عدد من هذه
المواجهات مع الموت، ينتصر لأن إرادة
الإنسان لها أيضا هامشها الذي تتحرك
فيه، وتبرهن على أن الإنسان قادر على
أن يسهم في صناعة أقداره، بدل أن
يستسلم لها بإرادة مشلولة. إن لإرادة
الحياة أيضا قدرتها على الفعل
والتاثير، وقدرتها على المراوغة
والمناورة والتحدى، حتى لو كان الموت
هو الذي يقف في الطرف المقابل. والقصة
بقدر ما هي حديث عن الموت، وهجاء له،
فهي حديث عن الأب، وتمجيد لنضاله وصبره
ومعاناته وعناده. وبمثل ما كانت القصة
الأولى متعددة المستويات، تمنح نفسها
لأكثر من قراءة، فإن هذه القصة أيضأ،
تحمل داخل النص الظاهر الذي يتحدث
بحياد وموضوعية عن تجارب الأب، نصا
مضمرا يوحي بعمق الدلالة التي تكتسبها
علاقة الابن بابيه. لقد وردت إشارة في
القصة الأولى الى هذا-الأب، إشارة
قصيرة موحية عندما يقول الراوي:"إنني
أحب الجموع كما أحب أبى، وأخشاها كما
أخشاه، من يستطيع في مجتمع بدوي بلا
حكومة، أن يمنع انتقام أب من أحد
أبنائه؟، هذه الإشارة الواضحة في
القصة الأولى، نلتقي بها هنا، وقد
امتزجت بروح النص، واختفت خلف سطوره،
فالأب البدوى كما تصوره هذه الإشارة،
إنما يمارس على ابنه سلطة مطلقة لا
حدود لها. الأب هنا-إذا
ليس
مجرد نموذج إنسان نرى من خلاله قصة
الصراع بين الانسان ومصيره المحتوم،
إنه وجود طاغ يمتلئ الحديث عنه بعنصري
الرهبة والحب، إذ يتحول الأب في روح
هذا النص الى قوة، وإلى سلطة، تبسط
نفوذها على عناصر الزمان والمكان التي
يتعامل معها النص، بمثل ما تبسط نفوذها
على الراوي الذي يروى هذه القصة. كيف
إذا يموت هذا الأب الذي تجسدت فيه كل
هذه القوة؟ إنه لا يموت، إلا إذا أراد
هو نفسه أن يستدعى الموت، ويأمره
بالمثول أمامه. وعندما كان أبناؤه
وأهله الذين يتحلقون حول سرير احتضاره
يبكون موته، كان هو وحده الذي يبتسم؟
لأنه كان يعرف أن الاستسلام للموت هذه
المرة، لم يكن جبنا ولا تخاذلا ولا
هزيمة، وإنما هو عمل من أعمال الشهامة.
فقد جاءه الموت هذا اليوم مطيعا،
متخاذلا، راجيا الرضا والقبول .
يستخدم الكاتب في قصتيه
الاثنتين، "تقنية" واحدة في أسلوب
السرد، هي ضمير المتكلم . وهذه التقنية
القصصية، تمنح النص حرارة وألفة
وحميمية، وتمح المتلقي فرصة أن يلتقي
بالأحداث، ويتفاعل مع السارد البطل
دون وسطاء. وهي أكثر التقنيات السردية
استجابة لأسلوب التداعى الحر
للانفعالات والأفكار والرؤى
والعواطف، وأسلوب(المونولوج) الداخلى
وتيار الشعور، حيث يستطيع الكاتب رصد
التحولات النفسية، والكشف عن العوالم
الداخلية، والتقاط أدن الخطرات التي
تمر بطبقات الوعي وتقديمها، تدفقا
وبوحا، وإيقاعاً سريعا تلقائيا، بعيدا
عن نمطية النماذج، وتراتبية الأحداث،
وصولا إلى استبطان واستكناه تلك
المناطق العميقة في الروح.
وننتقل من الحديث عن هذه
الضفيرة التي وحدت بين الشكل
والموضوع، إلى الحديث عن سمة أخرى،
ميزت هاتين القصتين، وهي الصدق، وإذا
كان الصدق الفني، لا يقتضي بالضرورة أن
يكون مرادفا لصدق الوقائع والأحداث
والنماذج، أو صدق الأفكار التي
يتبناها الكاتب، لأننا نعرف أنه يتحدث
من خلال أقنعة ويختلق أحداثا وأشخاصا
من الخيال، فأنا في هاتين القصتين نجد
أن الصدق الفني، لايختلف عن صدق
الحياة، بل وصدق الوقائع والأحداث
والأفكار.
إن الصدق الفني يأتي دائما من
صدق الدوافع والأسباب التي تختفي خلف
الوقائع والأحداث، ويأتي من وجود نسق
متماسك لملامح الشخصيات التي يقدمها
خال من التناقض والافتعال، وهذا ما
توفر لهاتين القصتين من ناحية، كما
توفر لهما من ناحية أخرى مرجعية مهمة
تقع خارج حدود النص، هي شخصية الكاتب
الذي نعرف سيرته وحياته ونضاله، بمثل
ما نعرف أفكاره وأطروحاته، وصار من
الصعب في مثل هذه الحالة أن نفصل بين
القصة وكاتبها. فالكاتب هنا ليس كاتبا
عاديا، وإنما شخصية قيادية، يسهم في
صناعة تاريخنا الحديث. لقد سقت هذه
الملاحظة، وأنا أعرف أنني انتقلت من
حديث النقد الذي يعتني بما يقوله النص،
إلى حديث آخر من خارج النص. وهذا
الانتقال. استوجبه ظرف استثنائي، وهو
أن الكاتب هنا أيضا شخصية استثنائية،
ويكتب عن أحداث ووقائع لها مرجعيتها في
الواقع، كما يتناول أسماء نعرفها
جميعا من طرفة بن العبد ونزار قبان إلى
عمر المختار وسعدون ومحمد أبومنيار.
وأخيراً..
فإن ما توفر لهاتين القصتين
من عمق التحليل، والقدرة على سبر أغوار
النفس البشرية، والسيطرة على"التقنية"
الفنية، وصدق وحرارة الانفعال أثناء
الكتابة، يجعلها من الأعمال الإبداعية
التي تحقق لقارئها المتعة الروحية،
وتفيء له جوانب من حياته، وتحرك في
نفسه رغبة صادقة لتجاوز سلبيات
الواقع؟ شوقاً إلى معانقة الأبهى
والأجمل في الحياة. وتلك هي أعظم رسالة
يقدمها لنا الفن.