القرية.. القرية، الأرض.. الأرض

 وإنتحار رائد الفضاء

إن ما توفر لهذه القصص من عمق التحليل، والقدرة على سبر أغوار النفس البشرية، والسيطرة على التقنية الفنية، وصدق وحرارة الانفعال أثناء الكتابة، يجعلها من الأعمال الإبداعية، التي تحقق لقارئها المتعة الروحية، وتضئ له جوانب من حياته، وتحرك في نفسه رغبة صادقة لتجاوز سلبيات الواقع شوقا إلى معانقة الأبهى والأجمل في الحياة.وتلك هى أعظم رسالة يقدمها لنا الفن.

المدينة

القرية

الأرض

إنتحار رائد الفضاء

الفرار إلى جهنم

عشبة الخلعة والشجرة الملعونة

الموت

ملعونة عائلة يعقوب ، ومباركة أيتها القافلة

أفطروا لرؤيته

دعاء الجمعة الآخرة

وانتهت الجمعة دون دعاء

المسحراتي ظهرا

حول قصتي الموت ، والفرار إلى جهنم

 

المدينة

المدينة من قديم الزمان، ما بالك الآن..! هي كابوس الحياة وليست بهجتها كما يظن.. لو كانت بهجة.. لكانت قد صممت أصلا لذلك ولكن المدينة لم تؤسس للرفاهية أو السرور أو المتعة أو البهجة أبدا المدينة حشر معيشي، وجدت الناس نفسها فيه بالضرورة. ولم يأت أحد ليسكن المدينة من أجل النزهة.. بل من أجل العيش.. والطمع والكد.. والحاجة.. والوظيفة التي تجبره على أن يعيش في مدينة.

المدينة مقبرة الترابط الاجتماعي، ومن يدخلها يسبح، غصبا فوق أمواجها التي تنقله من شارع إلى شارع، ومن حي إلى حي ومن عمل إلى عمل ومن صاحب إلى آخر. وبطبيعة الحياة فيها، يصبح هدفها هو المنفعة والفرصة، وأخلاقها النفاق (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) (قرآن) ويصير لكل شيء ثمن مادي تتطلبه حياة المدينة.. وكلما تقدمت المدينة وتطورت. تعقدت وابتعدت عن الروح الودية والأخلاق الاجتماعية.. حيث سكان العمارة لا يعرف بعضهم بعضا.. وخاصة عندما تكبر العمارة، وتصبح الحيثية رقما فحسب، فلا يقال: فلان ابن فلان من قبيلة الفلانيين بل يقال: رقم كذا، ولا يخاطب سكان المدينة بعضهم بعضا بالحيثية الاجتماعية والآدمية، بل بالرقم.. أنت الذي تسكن في الشقة رقم كذا، في الطابق رقم كذا صاحب الهاتف رقم كذا.. والسيارة رقم كذا الخ وأهل الشارع لا يعرف بعضهم بعضا، لأنهم لم يختر بعضهم بعضا، بل وجدوا أنفسهم في شارع في زنقة.. في عمارة.. بلا اتفاق .. ولا قرابة جمعتهم.. بل المدينة تشتت الأقارب غصبا وتفرق بين الأب وابنه، والأم وأبنائها.. وأحيانا بين الزوج وزوجه.. وتحشر النقيض مع النقيض، والبعيد مع البعيد. كما تشتت الأقرباء، تحشر الفرقاء. المدينة مجرد حياة دودية (بيولوجية) يحيا فيها الإنسان ويموت بلا معنى.. بلا رؤية.. بلا ترو، يعيش ويموت وهو داخل قبر في الحالتين.. لا حرية في المدينة ولاراحة.. ولارواق.. جدران زائد جدران، في المسكن، في خارج المسكن، في العمارة، في الشارع، في العمل.. لا يمكنك أن تجلس كما تريد، أو تمشى في أي اتجاه تريد.. أو حتى أن تقف متى شئت.. عندما تقف لمصافحة صديقك أو قريبك الذي قد تجده صدفة، يداهمك المارة.. ويجرونك بعيدا عن صاحبك.. وقد يحولون بينك وبينه، فيدك التي امتدت لتصافحه، تجدها قد ارتطم بها مار غافل لا يقدر الموقف.. ولا يدرى به.. إذا أردت أن تعبر الشارع فليس سهلا.. بل قد تفقد حياتك، أو أحد أطرافك لمجرد عبور شارع.. ما لم تأخذ الحذر والحيطة..وتلتفت عدة مرات يمينا ويسارا.. وقد تحاصر في منتصف الشارع، وتتسمر مكانك وسط خطر أمواج المدينة.. من حولك سيارات.. عربات .. قطارات ماسحات الخ.

إن الحكايات الاجتماعية المسلية والودية داخل زحام المدينة، تبدو ضربا من العسف،وإذا حدثت، فهي فوق النفس تارة.. ونفاق للنفس تارة أخرى وفي شوارع المدينة يتساوى الآدميون والقطط.. في سوق المرور والسابلة.. فعندما تسمع صوت موقفات سيارة، تمسك فجأة، فتقول تلقائيا :إنه إنسان أو حيوان، لأن هذا يحصل عندما يعبر أمامك وأحد منهما.. وتمسك سيارتك بنفس الوضع، خوفا من دهس أي واحد منهما.. وحتى شرطي مرور المدينة ينبهك كتابة أو شفاها من حوادث تقع نتيجة عبور إنسان.. أو قط في أحد شوارع المدينة.. هذه هي المدينة، ليس في المدينة(تفضل) بل ادفعادفع بكتفك،ادفع بكتفك.. ادفع من جيبك ادفع من أي اعتبار اجتماعي.. المدينة ادفع.. لا تفضل.. في المدينة يحترمك الحائط أكثر من البشر، قد تستند إلى الحائط.. والحائط يرشدك إلى مكانك عندما تعلق عليه تعليمات وإرشادات وإعلانات يصعب جدا على إنسان ساكن في المدينة، أو لاف على المدينة أن يعطيها لمن يسأل عنها وهو في حاجة إليها ..إذا سألت إنسانا في المدينة عن مثل هذه الأشياء، يقول لك: آسف لا وقت لدى.. متأسف مستعجل.. عفوا.. فأتني القطار.. الحافلة.. السيارة .. الخ ويقول لك: عليك وعلى الحائط، فالحائط فقط واقف في المدينة.. ولكن الناس هي التي لا تستطيع أن تقف مع الحائط.. المدينة دخان أوساخ.. رطوبة.. حتى ولو كانت في صحراء، تتسخ حتى ولو كان عملك نظيفا.. تتلطخ حتى ولو كنت غير زواق ولبان وبناء.. من هوامش المعيشة في المدينة أن تتقبل غصبا الأوساخ وتعطى (ياقة)قميصك للدخان والغبار.. وعليك أن تعرق بلا عمل عرقا رطبا.. وتجد نفسك في المدينة لقنت كلمات.. وعبارات.. وإشارات سطحية، ولكن لابد منها، لأنها جزء هام من وسيلة التفاهم، وتمشية الأمور في المدينة.. وتلقن ردودا جاهزة على تساؤلات متوقعة تجيب بها تلقائيا بلا اكتراث.. ما فيه.. ما فيه.. الله غالب.. هذا هو.. لا يا عمي.. لا يا خوي.. قالوها كان زمان.. امش تربح.. حول عن طريقي.. بالك. ولو يسألك أحد أو تسأل نفسك: ماذا قلت من دقيقة؟ فلا تستطيع الإجابة.. ولا تتذكر أنك قلت هذه العبارات، لأنها جزء من طبيعة حياة المدينة.. تقال تلقائيا، لكي تبرهن على عدمية حياة المدينة.. وخلوها من المضمون.. ما هو الذي ما فيه..؟ وما هو الشيء الذي ليس فيه..؟ وما هو الذي هذا هو..؟ ولماذا قلت لا؟ ومن عمك؟ ومن أخوك...؟ وما التي قالوها..؟ ومن هم..؟ وأي زمان..؟ وما الذي كان زمان..؟ وما هي طريقك في المدينة!!؟ لو حوصرت بمثل هذه الاستفسارات، لغرقت فيها، ولا تستطيع الإجابة عن شيء، إنه كلام مدينة.. تمشية أحوال..تضييع وقت. حقا إن حياة المدينة مجرد تضييع وقت إلى أن يحين وقت آخر.. وقت العمل.. أو النوم.. أو الأرق.

المدينة تقليعة.. صيحة.. انبهار.. تقليد غبي.. استهلاك لعين... مطالب بلا عطاء مجد.. وجود بلا معنى.. والأسوأ هو عدم القدرة على المقاومة في المدينة.. لا قدرة لساكن المدينة على مقاومة التقليعة حتى ولو لم تعجبه ولا قدرة له على مقاومة الضياع.. ولا قدرة له على مقاومة الاستهلاك الشره المهلك وإن كنت حاشرا لنفسك.. حديثا في المدينة.. ولست من ساكنيها الأوائل، والمتكيفين بكيفها، فأنت أضحوكة المدينة في كل الأحوال.. إن كنت تريد التمسك بما عندك من معان وقيم وسلوك غير مديني، تصبح شاذا، ولا تجد مع من تتفاهم. وعندما تغير حالك، لكي تصير مدينيا، تصبح ركيكا..

في المدينة قد يقتل الابن أباه، والأب ابنه.. وهو مسرع في قاطرة، أو سيارة، أو أي عجلة، دون أن يقصد ذلك. إنها سرعة المدينة، وزحمة المدينة، وأنانية المدينة.. والابن يشتم أباه في المدينة دون أن يعرفه، عندما يزاحمه في الطريق، أو يجهره بضوء سيارته.. بل كثيرا ما اختلطت المحارم بالحلائل في المدينة، بسبب كثرة الناس، وسرعة اختلاطها وافتراقها، دون اكتراث.

ليس العيب في الناس سأكنى المدينة أبدا.. الناس هم الناس في المدينة، أو القرية، متشابهون في كل شيء تقريبا.. في القيم.. في الأخلاق.. خاصة أبناء القوم الواحد، أو الدين الواحد.. العيب في طبيعة المدينة ذاتها، بما تفرضه على الناس من تكيف تلقائي تدريجي، حتى يصبح سلوكا معتادا بمرور الزمن في المدينة.. الناس يبنون المدينة للضرورة والحاجة.. ولكن المدينة تصير بعد ذلك كابوسا لابد منه بالنسبة لأولئك الذين بنوها وسكنوها.. كل شيء في المدينة بثمن.. وكل كمالية تكون ضرورية.. وكل ثمن له ثمن مادي ومعنوي. ومن هنا تبدأ أزمة الحياة في المدينة .

المدينة ضد الزراعة.. تبنى على الأرض الزراعية.. تقتلع الأشجار المثمرة.. تجذب الفلاحين وتغريهم، ليتركوا الزراعة، ويتحولوا إلى أرصفة المدينة تنابلة كسالى.. عاطلين متسولين.. وفي نفس الوقت، تلتهم المدينة كل الإنتاج الزراعي، وتطلب المزيد.. وهذا الإنتاج الزراعي المطلوب من سأكنى المدينة، يحتاج إلى أرض زراعية وإلى فلاحين. المدينة ضد الإنتاج، لأن الإنتاج يتطلب جهدا وصبرا، والمدينة بطبيعة حياتها ضد الصبر، وضد الجدية والجهد.. فهي بطبيعتها تريد أن تأخذ ولا تعطى.. تستهلك ولا تنتج، فهي تتمدد في كل اتجاه، وليس لانتشارها حدود.. فهي تتطحلب على كل شيء حولها، وتفرد أخطبوطا لتنثر سمومها، وتقتل الهواء النقي، وتحول الأكسجين إلى ثان أكسيد الكربون.. وتحول ثان أكسيد الكربون إلى أول أكسيد الكربون.. وتشوه الصورة الطبيعية، وتعتم المرآة الطبيعية، وتنفث الدخان والأبخرة والغازات، فتخنق التنفس، وتلوث كل شيء.. وتحجب النجوم والقمر وحتى الشمس.. وتصدح.. وتصرخ.. وتزمر.. وتضج .. فتصمغ السمع، وتسبب الصداع.. وتوتر الأعصاب.. تتمدد لتلتهم الأرض الزراعية، وتلتهم القرى المجاورة؟ لتطويها تحت جناحها القذر الكاتم للنفس، فتعشق أسنانها التي هي على هيئة طرق ومبان ومرافق ومناكب وأظفار، تعشقها في تلك القرى الصغيرة المعزولة الآمنة الهادئة، وإذا بها ضاحية، ثم طرف، ثم جزء لا يتجزأ منها، فيتم طحنها بكلكل المدينة الثقيل، وتتحول من قرى وادعة.. منتجة.. طيبة.. هادئة.. مترابطة.. صحية مزهرة.. إلى خلية مظلمة قاتمة مريضة، جزء من كل ثقيل.. مريض.. مجهد بلا إنتاج.. متعب بلا عمل.. عائش بلا هدف.. موجود بلا غاية..

المدينة تقتل الحس الاجتماعي والمشاعر الإنسانية، وتخلق التبلد واللامبالاة، وذلك بسبب تعود سكانها تكرار سلوك ومشاهد مما يكون ملفتا للانتباه في القرى..والواحات..والأرياف.. والبوادي.. ففي المدينة،لا تسأل ولا تسأل عن حركة سريعة أو تجمع، أو حركة بطيئة، أو تفرق، وذلك لتعودك مشاهدة ذلك.. وبالتالي لا يلفت انتباهك حتى تسأل عنه.. فالمشاجرة.. أو بكاء إنسان.. أو سقوطه في الشارع.. أو حتى اشتعال النار في أي مكان.. بشرط أن يكون غير قريب من بيتك.. أو المرور على البائسين والنائمين على الأرصفة والواقفين على النواصي.. والمستندين إلى الحيطان.. أو جذوع أشجار المدينة حتى لو خاطبوك.. أو مدوا أيديهم إليك سائلين أو متوسلين، فهذا المشهد يتكرر في المدينة بصورة مستمرة، فيتبلد بطبيعة الحال الإحساس نحوه بمرور الزمن، ويصبح من الرسوم المكملة لصورة المدينة.. ويحسب هكذا من المشاهد المألوفة التي عندما تتكرر أمامك لا تشذ انتباهك.. حتى لو انها في بداية الأمر تستحق التوقف عندها.. أو معالجتها.. أو المساهمة في شأنها، لكن الحياة في المدينة لاتسمح بهذا، فالذي يتوقف عند مثل هذه الأمور لايتمكن من ممارسة حياته في المدينة.. لأن ذلك يتكرر، وإذا توقفت عنده كلما تكرر، إذن، تصبح مشغولا بها باستمرار، ولأن سكان المدينة كثرة، ومن فئات مختلفة، ومستويات متباينة ثقافيا واجتماعيا.. ولأن الروابط والعلاقات الاجتماعية تتقطع بحكم العيش في المدينة.. فالجار لا يعرف حتى من هو جاره.. لأنه متغير.. ومشغول.. ولم يختر أحد أحدا.. إذن، هذا الذي يؤلمك ألمه في المدينة، أو تشاطره أفراحه، أو أتراحه.. أو يشغلك حاله، هم أناس لا يهتمون بك.. فكيف تهتم بهم؟ من أجل هذا أوكلت المدينة لمنظمات مدينية مسؤولية معالجة تلك القضايا.. فالحريق ليس من شانك، فهو من شان جهاز المطافئ. وهذا تبرير لساكن المدينة بأن لا يهتم بحريق شعت هنا أوهناك، فالمطافئ هي المسؤولة.. أنا لست رجل مطافئ .. أنا مشغول.. والمتسول من مسؤولية المنظمات الاجتماعية، ولو أعطيت كل متسول صادفني في شوارع المدينة، لأنفقت كل ما عندي على الشحاذين. فهو ليس هذا الذي أمامي، فقط، بل في كل شارع، إذن، لا تهتم بسؤاله.. ثم من قال: إنه محتاج ومسكين حقا..!؟ قد يكون أحد الكسالى، أو أحد النصابين.. فلا تتأثر بالمظهر، فكل المدينة مظاهر خادعة.. !! تظهر غير ما تبطن.. إن المشاجرة مسؤولية الشرطة، وأنا لست شرطيا حتى أتدخل بين المتشاجرين.. حتى العرض يعتدي عليه أمام سأكنى المدن فلا يكترثون.. إن ذلك مسؤولية المحتسب أو شرطة الآداب.. أو جمعية النص عن المنكر. لو توقفت عند الحريق والمشاجرة.. والعدوان على العرض.. والمتسول.. والباكي.. والشاكى.. والمسكين.. وهي مشاهد تتكرر كل يوم، وفي كل ناحية من المدينة، فهل تستطيع الوصول إلى المكان الذاهب إليه.. أو العودة إلى بيتك وعندك قدرة لمعالجة تلك الحوادث المختلفة؟ من هنا، وشيئا فشيئا يتبلد الإحساس في المدينة تجاه تلك الأمور، وتتكون قناعة بعدم المسؤولية.. ويصبح من السذاجة التصرف غير هذا التصرف البليد في أي مدينة في العالم. إن موظفا فصل من عمله لأنه خرج من مكتبه وأسعف مصابا في حادث تصادم في شارع من شوارع المدينة، فصل بتهمة ترك العمل، والتدخل في اختصاص غيره الذين هم الشرطة والإسعاف، وكل تلك المنظمات المدينية لا تشكرك إذا قمت مقامها متطوعا مساعدا.. بل تتحسس منك وتغار؟ لأنك تنافسها فيما هو مبرر عيشها في المدينة .

هذه هي المدينة، طاحونة لساكنيها، وكابوس لمشيديها، تجبرك على تغيير مظهرك.. وتبديل قيمك.. وتقمصن شخصية مدينية ليس لها لون ولا طعم.. ولا رائحة ولا معنى.. حياة دودية.. (بيولوجية) تجبرك على استنشاق أنفاس الآخرين غصبا.. وعدم الاكتراث بهم مع ذلك. وتحتمي بهم فلا يحمونك ولا تحميهم.. وتجبرك المدينة على سماع أصوات الآخرين مع أنك لا تخاطبهم.. وتستنشق أنفاسهم دون أن تطلب منهم ذلك.. وتستمع إلى أصوات كل المحركات والمطارق بالكامل مع أنك غير معنى بتلك الأصوات.

أما أطفال المدينة فانهم أتعس من كبارها.. فهم من ظلمات إلى ظلمات.. من ظلمات ثلاث إلى الرابعة.. فمنازل المدينة ليست بيوتا بل هي جحور وكهوف محاطة بتيارات متعاكسة من حركة شوارع وزقاق المدينة.. والناس فيها تماما مثل القواقع المحتمية بأصدافها بسبب ضغط تيارات البحر وأمواجه.. فالمدينة بحر له تيارات وأمواج وبراريم وقاذورات وآتيان وزبد.. وقواقع .. فالقواقع هي الناس واطفالهم المساكين الذين يضغط ضدهم كل ما هو في المدينة، فذووهم يضغطون عليهم إلى الداخل إلى القوقعة خوفا عليهم من الشارع التيار الذي لا جدوى من عبوره لان ثمة قواقع أخرى وكهوفا أخرى وأصدافا متجمدة هي الأخرى على الجانب الأخر من الشارع، فالى أين أنتم ذاهبون أيها الأطفال الأبرياء تلك بيوت الناس.. إنكم لا تعرفونهم، أن الذين كانوا هنا انتقلوا، هؤلاء جدد. ثم أن الشارع لير لكم وحدكم. انه للسابلة.. الشارع يا أبنائي ليس للعب.. والشارع يضغط عليهم كذلك.. أن صغيرا دهس يوم أمس في ذاك الشارع ألانه حاول اللعب فيه.. والسنة الماضية مرت العجلات المسرعة على طفلة وهي تعبر الشارع فتمزق جسدها الصغير ولملموها في رداء أمها قطعة.. قطعة.. وأخرى خطفها محترفون.. وغيبوها أياما ثم وضعوها أمام منزل أهلها بعد أن سرقوا احدى كليتيها!!.. وطفل وضعه أطفال الشارع في صندوق ورق فداسته السيارة دون أن لخم أن فيه طفلا مسكينا.

ارجعوا إلى الداخل.. إلى الظلام.. إلى الحجرات الباردة المظلمة والساخنة القذرة.. الله غالب المدينة امتلأت بالأوساخ.. إياكم أن تحاولوا اللعب على جانبي الشوارع.. انها قاذورات وزبالة.. وعندما توصد كل السبل أمام الأطفال. وبصور مخيفة.. الموت دهسا إلى الموت تقطيعا.. إلى الخطف وبتر الأطراف فيكون أهون المحاذير بالنسبة إليهم هو الوسخ.. والقذارة.. ذلك أهون من الحبس والضجر وظلام المنازل.. والنتيجة هي هي موت بأسلوب آخر. نعم إن بحر المدينة مثل أى بحر له مهالك وبلاليع وحيتان خطرة.. فكيف يتسنى للأطفال العيش فيه.. ولكن هم فيه.. ما الحل.. الحل هو الضغط على الأطفال وضربهم وإجبارهم على التقوقع والانكفاء والانكسار النفسي.. وقمع انطلاقا تهم وحرمانهم من النور والهواء.. هذه هي حياة المدينة، طابور.. سيارة افتح اقفل، ما وراء الباب أحباب.. ا لروضة طابور ورسميات وتعهدات. والمدرسة كذلك والمستشفي والسوق، كلها افتح.. ادفع.. اقفل.. اصطف.. أسرع.. طفل المدينة ينمو بيولوجيا ولكنه سيكولوجيا هو وعاء لكل تلك الكبوحات.. والقموعات وعوامل الزجر والنهر.. فهو نموذج لإنسان العقد والأمراض النفسية.. والانطواء، والنكوص . وهذا هو سر ذبول القيم الإنسانية والروابط الاجتماعية وعدم الإحساس بالغير.. فقد أن الترحاب والمباجلة وكذلك الغيرة.

أما القرية والريف فذلك عالم آخر يختلف في المظهر والجوهر.. هناك لا ضرورة إطلاقا للقمع والزجر. والضغط العكسي.. هناك تشجيع وتمجيد بالانطلاق والظهور إلى ا لنور.. هناك تحاكى ا لطيور والزهور في التحرر والتفتح.. لا شوارع.. لا قاذورات.. لا مجهولون، كل أهل القرية والريف والنجع مترابطون حتى النهاية، تربطهم كل الوشائج المادية المعنوية.. هناك أطفال الحبور والسمر.. اطفال الشمس والقمر.. اطفال النسيم العليل والرياح العاصفة.. لا خوف من الانطلاق لا تيارات.. لا فتح.. لا قفل، كل شئ مفتوح بالطبيعة.. ولا حاجة للقفل بالطبيعة حيث البيئة الطبيعية التي ينمو فيها الطفل كما تنمو تلك النباتات.. بلا كبح.. ثم انسان بلا عقد.

أيها العقلاء.. ايها الرحماء.. ايها الانسانيون ارحموا الطفولة.. فلا تخدعوها بالعيش في المدينة. لا تقبلوا ان تحولوا اولادكم الى فئران من جحر الى جحر.. من حفرة الى حفرة.. ومن رصيف الى رصيف. ان سكان المدينة ينافقون أطفالهم وانفسهم عندما يظهرون لهم الحب.. وفي نفس الوقت يخلقون المخانق والاقفاص لتبعد عنهم صوت اطفالهم الحبيب، وتغيبهم هم انفسهم عنهم وتحجزهم عن ذويهم. اذ ان حياة اهل الطفل- لانهم من سكان المدينة- تفرض عليهم التخلص من اكبادهم والتحايل على اولادهم .. فهم لكي يقاوموا حياة المدينة الكابوس يبحثون ويخلقون وينفقون عن وعلى مشاغل لا تسمن ولاتغنى من جوع.. مناسبات مزورة.. سهرات مصطنعة.. صداقات كاذبة.. وهنا يشكل الاطفال عقبة امام ذويهم تعوقهم عن ممارسة ذلك، وهم يحاولون التكيف والتغلب والسير مع حياة الجحيم التي تفرضها المدينة على ساكنيها المعذبين. فدور الحضانة، والرعاية والمراجح وحدائق الاطفال، ورياض الاطفال وحتى المدارس ما هي الا تحايل على أولئك المخلوقين الابرياء للتخلص منهم بطريقة عصرية للوأد. ما أقسى المدينة واتفهها على ساكنيها المساكن تجبرهم على قبول اللامعقول.. وهضمه وابتلاعه غصة على انه مقبول ومعقول.. وليس أدل على ذلك من تلك الاهتمامات التافهة التي تفرضها المدينة على اهلها. قد تجد الآلاف المؤلفة تتفرج على عراك بين ديكين!! ناهيك عن الملايين أحيانا وهي تتابع اثنين وعشرين فردا لاغير في حركات لا معنى لها وراء كيس صغير في حجم البطيخة مملوء بالهواء العادي.. ونفس الحشود تقريبا تحضر لمجرد الحضور تقليدا مدينيا تافها أمام شخص واحد فقط يردد كالببغاء امامهم باسلوب سامح وغير مسموع احيانا استنطاقات ملوية ومصحوبة بضجيج ألي، اغلب الحاضرين لا يميزون منها شيئا.. وقد يصفق مخمور أو مخبول فيصفق كل الجالسين غير الفاهمين تعبيرا منهم بأنهم منسجمون وهو غير صحيح . نفاق عصري متكلف، الناس مجبرة عليه في حياتهم في المدينة. كما يتفرج الملايين احيانا ايضا على عراك آخر بين رجلين بالغين عاقلين في صراع أو ضرب في معركة شرسة ومرعبة دون ان يتدخلوا لفض النزاع، وايقاف المعركة الوحشية التي في مقدورهم فضها. ولكن حياة المدينة العصرية تمنعهم لان المعركة غير المعقولة والدموية والحامية الوطيس مقصودة في ذاتها، وبهذه الكيفية الهمجية لكون المدينة تريد ذلك.. فتعذيب الحيوانات في السباقات المنهكة لها.. وتسليطها على بعضها استغلالا لطبيعتها البهيمية العمياء.. وتعذيب البشر كذلك لايلامهم والتضاحك عليهم، والمراهنة فوقهم هي وسائل للترفيه الكاذب لسكان المدينة. وان القتال بين المتصارعين والمتلاكمين لا مبرر له.. فليس ثمة عداوة بعد التحقيق توجد بينهما.. ولكنه هذا المطلوب.. مدينيا وعصريا.!!

القرية.. القرية

الفرار.. الفرار من المدينة.. ابتعدوا عن الدخان.. ابتعدوا عن ثاني أكسيد الكربون الخانق.. ابتعدوا عن أول أكسيد الكربون السام.. ابتعدوا عن الرطوبة اللزجة، ابتعدوا عن غازات الخمول والسموم.. فروا من جو الكسل والكساد والسأم والملل والتثاؤب، فروا من كابوس المدينة.. اسحبوا أجسامكم بسرعة من تحت كلكلها.. حرروا أنفسكم من الجدران والدهاليز والأبواب المقفلة عليكم، أنقذوا أسماعكم من الضجيج وا لضوضاء.. والهرج والمرج والصراخ.. وطنين الاسلاك وقرع الأجراس.. وأزيز المحركات.. اهجروا الجو المزعج.. والمكان المقلق.. والموضع المقفل.. إنها مكان النظر المحدود والجهد المهدود.. اهجروا معيشة الفئران وجحورها.. اهجروا الحياة الدودية.. اهجروا المدينة.. فروا إلى القرية، حيث تشاهدون القمر لأول مرة في حياتكم، بعد أن تتحولوا من ديدان وجرذان عدميين شرهين مجردين من الروابط الاجتماعية إلى آدميين حقيقيين، هناك في القرية والواحة والريف. اخرجوا من قبور الأحياء إلى ملكوت الله الواسع المتألق الرائع.. حيث تشاهدون الثريا الطبيعية.. وتحتقرون الثريا الصناعية المصنوعة من الرمل، والمشتراة من السوق.. والقابلة للكسر والتلف في أي لحظة.. والمتسخة بالذباب والعنكبوت في جحور المدينة المسماة شققا ومنازل.. انظروا في الريف المصابيح الربانية المعلقة في السماء.. وليس في سقف قبر متسخ داخل المدينة.

القرية هادئة.. ونظيفة.. ومترابطة.. وأهلها يعرف بعضهم بعضا.. ومتضامنون في السراء والضراء.. لا سرقة في القرية والريف، الناس يعرف بعضهم بعضا.. والمرء هناك يحسب ألف حساب لسمعة عائلته وقبيلته ولقبه، وأي مسبة يرتكبها الإنسان في القرية، لا تنتهي بيومها كما هو في المدينة، والتي تسجل عادة ضد مجهول- لكثرة ساكني المدينة واختلافهم-ولا تنتهي حتى بنهايته، بل تبقى عالقة باسرته ورهطه وقبيلته أمام بقية العشائر والقبائل، وتشكل إهانة دائمة لذويه. وهذا راع إجماعي أقوى من قوة القانون المدني والشرطة المدنية.. ثم إن التضامن والتكافل الاجتماعي في الريف والقرية، يسد حاجة المعوزين، ويكفيهم السؤال والسرقة.. كما أن حياة القرية والريف البسيطة المتواضعة القنوعة بعيدة عن الشهوات والكماليات.. فلا يحس ساكن القرية والريف بالحاجة لتلك الرغبات السخيفة التي يحس بها ساكن المدينة. فالقرية والريف لاتعرف التقليعة والطفرة و(الموضة)فمزاجهم هادئ ورائق وغير متقلب، غير قابل للتقليعة والتحول، فاهل القرية لا يعانون من عذاب التعقيد والتوتر واللهث وراء المثيرات.. وهكذا، فإن حياتهم هادئة وهنيئة، فهي بريئة من آلام الشهوات.نعم إن الشهوات في حد ذاتها ممتعة، ولكن ما قبلها وما بعدها من أجلها عذاب وألم وضيق وشقاء.. فهي آلام الرغبة في الحصول على شيء غير ميسور وغير ضروري لأنه مرغوب. فالضروري.كالحرث والحصاد من أجل لقمة العيش، أو غرز الأشجار، وجنى ثمارها من أجل أكلها، هي أشياء ضرورية، وما يسبقها من عمل غير مضجر وغير مؤلم نفسيا على الأقل، بل هو كدح ممتع لحلاله ولضرورته.. ولاتعقبه أو تسبقه ندامة، بل تسبقه الآمال المفرحة لتحقيقه، والرضا والمنفعة بعد مناله.. فحياة المدينة لهث وراء الشهوات، وكماليات غير لازمة، ولكن لابد منها. وعندما نرى الأمراض الاجتماعية تنتشر في المدينة، ونسمع الموعظة ضدها، وتسن القوانين لمحاربتها، لانستغرب، ولانعتقد أنها ستنتهي، وأننا سننتصر عليها، إذ إن طبيعة حياة المدينة مقرونة بهذه الأمراض حتما.. فالمدينة غثيان.. ودوخان.. وغياهب.. وعبث وضياع.. وجنون.. وخوف من الجنون.. ومن مواجهة الحياة المدينية.. و مشاكلها المدينية.. وبالتالي هروب منها، وعمل على تجاهلها.. وتعويض عن الفراغ الاجتماعي والاخلاقي.. وقصور عن تلبية الرغبات المدينية، فاللهو للغياب عن الحياة، والسكر والجنون والاشجار هي العلاجات الممكنة ضد أمراض الحياة المدينية. وأحيانا ولبعض الناس، بل لنسبة عالية من سكان المدينة تعد حياة المدينة وضياعها وعدميتها وسطحيتها وخلوها من المسؤولية، تعد علاجا في حد ذاتها.

اهجروا الجحيم الارضي.. وفروا سريعا، وبكل ابتهاج إلى القرية والريف، حيث للجهد الجسماني معناه وضرورته وفائدته ومتعته. هناك توجد الحياة الإنسانية الاجتماعية، هناك الأسرة المترابطة، والعائلة المتماسكة، والقبيلة المتضامنة.. هناك الثبات والإيمان والصفاء.. فالكل يحب بعضهم بعضا، وكل في مزرعته، أو مع شياهه ودواجنه، أو خدمة القرية والريف، فلا يقبل الانحراف، لأن أهل القرية يعرف بعضهم بعضا، خلافا لأهل المدينة، حيث إن المنحرف متأكد من عدم معرفته من قبل الآخرين في المدينة، ولهذا فالكذاب يستطيع أن يكذب... دون أن يترتب على كذبه مساءلة اجتماعية له، أو لعائلته، أو قبيلته، لأن ساكن المدينة ليس له اسم أو لقب أو منسب، اسمه هو رقم شقته.. ولقبه هو رقم هاتفه.. ومنسبه هو الشارع أو المرفق، وهذه يبدلها من حين إلى آخر. إذن، هو الان ليس هو بعدئذ . ما أجمل القرية والريف..!! الهواء النقي، الأفق الممتد، السقف السماوي المرفوع بلا عمد.. المصابيح الربانية... الضمير.. والمثل هي مصدر الإلزام الخلقي.. وليس الخوف من الشرطي والقانون والحبس والغرامة.. التحرر من القيود المفروضة والتوجيهات الضرورية المبغوضة.. فلا صفارات خطا تصر في أذن المعنى وغير المعنى، لا توجيه إجباري.. لاتدافع بالمناكب.. لا طوابير ولا انتظار.. ولا حتى نظر للساعة.. القرية والريف.. الفضاء الواسع.. الانشراح.. الملكوت البديع يجعل الحياة مريحة هادئة، لخلوها من ضيق المدينة وزحامها. للقمر معنى.. وفي السماء متعة.. وللأفق رؤية.. وكذلك الشروق والغروب والشفق والغسق . انظروا إلى هذه الصورة الرائعة التي يرسمها القرآن لدنيا القرية والريف: (فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق.. والقمر إذا اتسق..)ليس للمدينة قمر ولاشمس ولاشفق ولاغسق، يختلط ليلها بنهارها بلا فاصل.. لا نرى شيئا من الطبيعة. نرى فقط الاختلاقات و التزويقات.. ونحس بالمضايقات والمعاكسات، ونعيش العبثيات والهامشيات،ونرى تحت أقدامنا.. ونقرأ الملصقات، وننتبه للإشارات.. ونحشر بالضرورة في دنيا الأشياء الصغيرة، وإلا فقدنا حتى حياتنا.. إن أي انتباه أو تأمل لغير تلك الدقيقات، يخرجك عن قضبان سياق حياة المدينة.. وربما كلفك حياتك، أو حريتك المدينية. القرآن يقول (والشمس وضحاها.. والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها.. والليل إذا يغشاها.. والسماء و ما بناها والأرض وما طحاها).. تلك صورة رائعة لدنيا القرية والريف.. وكذلك قوله(والضحى . والليل إذا سجى.) وعندما يقسم بالفجر، إن الفجر لايرى إلا في الريف والقرية.. أي فجر لمدينة مكهربة ليلا ونهارا..!!؟ من يرى السماء ذات البروج!!؟ وفي الأرض آيات للموقنين..!!؟ أي أرض في المدينة؟ أرصفة مزحومة.. شوارع مكظومة.. نواح مبرومة.. زقاق.. مختنقات.. مضايقات.. رؤية محدودة . أي آيات يتيقن منها الموقنون في شوارع المدينة!؟ آي تأمل في زحمة المدينة!!؟ ليس ثمة وقت في المدينة، وليس فيها ليل أو نهار.. ما بالك بالوسق والغسق والفجر والشفق!!.

الأرض.. الأرض

يمكنكم أن تتركوا كل شيء إلا الأرض.. الأرض فقط لا يمكن الاستغناء عنها.. إذا خربتم أشياء أخرى قد لا تخسرون، ولكن إياكم أن تخربوا الأرض.. لأنكم عندئذ ستخسرون كل شيء.. الحياة(البيولوجية) التي تشمل حياة الإنسان، بل التي على رأسها حياة الإنسان، مصدرها الغذاء.. الغذاء بانواعه.. الصلب.. والسائل.. والغازي. والأرض هي وعاء هذا الغذاء، فلا تكسروا هذا الوعاء الوحيد الذي لا بديل له.. إذا خربتم الأرض الزراعية مثلا، فكأنكم كسرتم إناء طعامكم الوحيد، فلا تستطيعون دونه أكلا. وإذا خربتم الأرض الزراعية، فكأنكم كسرتم وعاء شرابكم الوحيد، الذي لا وعاء غيره لكم، فكيف تشربون..؟ الأرض هي رئتكم للتنفس فإذا خربت، فلا رئة لكم تتنفسون بها.. إذا انهمرت السماء عليكم بالماء دون أرض، فلن تستفيدوا منه إطلاقا.. إذن، السماء لا قيمة لها لنا دون الأرض..

وإن وجد الأكسجين في مكان ما.. في الفضاء الكوني فلا قيمة له ما لم تكن هناك أرض! كل صراعات التاريخ التي خاضها الإنسان ضد الإنسان أو ضد الطبيعة، هي من أجل الأرض. الأرض هي محور الصراع. حتى الفضاء استخدم من أجل الأرض، الأرض أمكم حقا، هي التي ولدتكم من أحشائها، وهي التي تحتضنكم وتغذيكم وتسقيكم.. فلا تعقوا أمكم، لاتقطع شعر رأس أمك.. ولاتقطع أصابعها أو تمزق لحمها أو تجرح جسمها.. فقط قلم أظفارها، ونظف جسدها من الأوساخ والأدران.. وداوها من الأمراض.. فلا تبن أثقالا فوق صدرها.. ولاتعبد طينا أو حجرا فوق ضلوعها، ارحموا أمكم، لأنه إذا فرطتم فيها، فلن تجدوا أما بعدها .. اكنسوا ما تراكم على ظهرها من حديد وطوب وحجر.. خففوا عن كاهلها العجوز ما ألقاه العاقون فوقه.. لاحتقر المهد الذي ترعرعت فيه.. والحضن الذي احتضنك.. لاتحطم مثواك الأخير.. وملاذك. وإلا كنت من النادمين الخاسرين. الأرض تكون أرضا فقط إذا حافظنا على عطائها.. الأرض المعطاء هي الأرض المفيدة.. احرصوا على هذه الأرض.. إذا بلطنا وجه الأرض أو"زفتناه".. أو عبدناه.. أو(ملعقناه)، نكون قد قتلنا الأرض، ولم تعد أرضا معطاء، أو مفيدة، فهي عندئذ قطران وزفت وبلاط ورخام.. وهذه المواد لا تعطى شيئا.. لأنها لا تنبت زرعا أو عشبا، أو تقطر ماء، فهي غير مفيدة للإنسان أو الحيوان.. إذن، هي أرض قد ماتت.. فلا تقتلوا الأرض، إذ تقتلون حياتكم ذاتها.. الحياة ماء وغذاء، والأرض المقتولة التي بلط وعبد وجهها، لا تمنح ماء ولا غذاء. إذن، لا حياة فوق أرض ميتة. أي نوع من البشر هؤلاء الذين يئدون الأرض ويدفنونها حية حتى الموت.. على أي أرض يعتمدون بعد ذلك في معيشتهم؟ أين سيعيشون.!!؟ أي، من أين لهم الماء والغذاء؟ الأرض وحيدة لا بديل لها.. ولاعوض عنها، فأين تذهبون؟. الجنة خلقت أشجارا، ولم تكن طرقا وأرصفة وساحات وعمارات.. وفساد الأرض هو العبث بها.. وتحويلها إلى شيء اخر غير تربة صالحة للماء والغذاء.. إذن، المحولون الأرض الزراعية إلى أرض غير صالحة للزراعة، هم المفسدون فيها.

انتحار رائد الفضاء

بعد أن طاف الإنسان في الفضاء الخارجي وأصابه الدوار، وبعد أن عجزت الميزانيات عن نفقات الفضاء الباهظة، وبعد أن نزل على القمر ولم يجد شيئا، وبعد أن فضح رائدا الفضاء تخاريص وترهات العلماء عن وجود محيطات وبحار فوق سطح القمر.. وتنافست الدول الكبرى السفيهة على امتلاكها، وسمتها بأسمائها.. وكادت تتقاتل فوق الأرض لاقتسام ثروات القمر.. وخاصة الثروات البحرية!.. وبعد أن اقترب الإنسان من كل أجرام المجموعة الشمسية، والتقط لها الصور، ويئس من وجود أى حياة فيها، ومن إمكان أى معيشة عليها، عاد إلى الأرض مصدوعا.. مصابا بالدوار والقيء والموت... ولم تبق إلا حقيقة أن الأرض وحيدة فريدة وأنها مصدر الحياة.. وأن الحياة ماء وغذاء، وأن المكان الوحيد الذي يمدنا بذلك هو الأرض لاغير، وأن الحاجة الوحيدة الماسة هي الخبز والتمر والحليب واللحم والماء.. وأن الهواء الضروري للحياة لا يمدنا به إلا غلاف الأرض.. هكذا.. ولهذا عاد الإنسان من طوافه الخارجي إلى سطح الأرض.

وخلع رائد الفضاء ملابس المركبة الفضائية، وارتدى(بدلته) العادية المناسبة للسير والمعيشة فوق الأرض، وانتهت مهمته مع مؤسسة الفضاء.. وصار يبحث عن عمل أرضى، فدخل محل نجارة، فلم ينجح في هذه الحرفة البسيطة، لأنها ليست من تخصصه.. كذلك محل الخراطة والحدادة والبناء والسمكرة.. وحتى محل الزواق والتلبين كذلك، فهو لم يدرس الرسم، أوالموسيقا، أو الحياكة ؛لأنها أبعد ما تكون عن تخصصه العلمي.. فخرج من المدينة الصناعية فاشلا مد حوار.. وتحول إلى الريف.. وبدأ يبحث عن عمل يرتزق منه وأهله في ميدان الزراعة.. فقال له الفلاح صاحب الأرض.. صاحب المزرعة: هل تجذبك الأرض إليها يابنى؟ وهو يقصد: هل تحب فلاحة الأرض.. ؟ فقال رائد الفضاء: إن جذب الأرض يتناقص كلما صعدنا إلى أعلى، ويقل وزننا تدريجيا حتى وصولنا إلى نقطة انعدام الوزن، عندئذ، نكون قد تخلصنا من جذب الأرض لنا، ونكون قد انجذبنا إلى كوكب آخر، ويعود الوزن تدريجيا. وهكذا..!! أرجو أن أكون قد أجبت عن سؤالك. فيعبر الفلاح عن عدم فهمه، وكأنه يطلب التوضيح.. فيردف رائد الفضاء في شرح معلوماته على أمل الحصول على عمل في الأرض مع فلاح بسيط: إن الأرض تقل في حجمها عن حجم المشترى قرابة1320مرة.. وإن (12) سنة أرضية تعادل سنة واحدة للمشترى.. وإن بقعة المشترى كافية لاستيعاب الأرض في مركزها، وإن744 كرة أرضية تساوى حجم زحل.. ومع هذا فإن وزن الأرض يقل بقرابة95 مرة فقط عن وزن زحل.. وإن قطر الأرض يزيد بحوالى50 مرة على قطر القمر.. وإن حجم الأرض يزيد على حجم القمر بحوالى80 مرة.. وإن جاذبية الأرض تزيد بست مرات على جاذبية القمر.. وإن بعد الأرض عن الشمس يصل إلى150 مليون كم.. وإن ضوء الشمس يصل إلى الأرض بعد ثماني دقائق من انطلاقه بسرعة300 ألف كيلو متر في الثانية.. وإن حجم الأرض يقل بقرابة1303800 مرة عن حجم الشمس، وكتلة الأرض كذلك تقل ب 332958 مرة، وكثافتها تقل ب 30 مرة تقريبا عن كثافة الشمس، وإن الأرض تأتى في المرتبة الثالثة في الابتعاد عن الشمس، فعطارد هو أقرب الكواكب إلى الشمس، ثم الزهرة فالأرض... الخ .وإن الزهرة تبعد عن الأرض بحوالى42 مليون كم.. وبعد الأرض عن القمر قرابة400 ألف كم، وإنه إذا كانت لديك سيارة تسيربسرعة100 كم في الساعة، فإنك تصل القمر بعد،146 يوما من مغادرتك الأرض، وإذا كنت لاتملك سيارة، وغادرت الأرض مشيا على الأقدام، فإنك تصل القمر بعد ثماني سنوات ومئة يوم، أعتقد أن أجبت عن السؤال.. وكما استمعت، فإنني ملم إلماما كاملا بما يتعلق بالأرض.. وعندما قال: الأرض، استيقظ الفلاح، وأغلق فاه الذي كان فاغرا طيلة رحلة رائد الفضاء من كوكب إلى كوكب، انطلاقا من الأرض إلى أن عاد إليها.. ولم يفهم الفلاح شيئا.. وإنما أصابه الدوار هو أيضا، وحس أنه راجع من رحلة فضاء عبر المجموعة الشمسية كلها بلا أي نتيجة تتعلق بمزرعته، فالذي يهمه المسافة بين كل شجرة وشجرة، وليس بين الأرض والمشترى! ويهمه حجم إنتاج مزرعته.. وليس حجم عطارد!! وربما تصدق ببعض الشيء على رائد الفضاء المتسول المسكين.. وانصرف عنه. فانتحر رائد الفضاء بعد ان أيس من الحصول على عمل يعيش به فوق الأرض.

الفرار الى جهنم

ما أقسى البشر عندما يطغون جماعيا..!! ياله من سيل عرم لا يرحم من أمامه!! فلا يسمع صراخة.. ولايمد له يده عندما يستجديه وهو يستغيث.. بل يدفعه أمامه في غير اكتراث! إن طغيان الفرد أهون أنواع الطغيان، فهو فرد في كل حال.. تزيله الجماعة، ويزيله حتى فرد تافه بوسيلة ما.. أما طغيان الجموع، فهو أشد صنوف الطغيان، فمن يقف أمام التيار الجارف!؟.. والقوة الشاملة العمياء!؟.

كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء، ولكنى كم أخشاها وأتوجس منها!! إن أحب الجموع كما أحب أبى، وأخشاها كما أخشاه، من يستطيع في مجتمع بدوي بلا حكومة أن يمنع انتقام أب من أحد أبنائه؟.. نعم كم يحبونه..!! وكم يخشونه في ذات الوقت..!! هكذا أحب الجموع وأخشاها كما أحب أبى وأخشاه. كم هي عطوفة في لحظة السرور، فتحمل أبناءها على أعناقها..!! فقد حملت(هانيبال) و(باركليز).. و(سافونارولا) و(داونتون).. و(روبسبير).. و(موسيلينى) و(نيكسون) وكم هي قاسية في لحظة الغضب!! فتآمرت على (هانيبال) وجرعته السم، وأحرقت(سافونارولا) على السفود.. وقدمت بطلها (داونتون) للمقصلة.. وحطمت فكي (روبسبير) خطيبها المحبوب.. وجرجرت جثة(موسيلينى) في الشوارع.. وتفت على وجه(نيكسون) وهو يغادر البيت الأبيض بعد أن أدخلته فيه وهي تصفق!!

يا للهول!! من يخاطب الذات اللاشاعرة كي تشعر!؟.. من يناقش عقلا جماعيا غير مجسد في أي فرد؟ من يمسك يد الملايين!؟ من يسمع مليون كلمة من مليون فم في وقت واحد!؟.. من في هذا الطغيان الشامل يتفاهم مع من!؟.. ومن يلوم من!؟.. ومن المن ذاته!!؟ أمام هذا اللهيب الإجماعي الذي يحرق ظهري.. أمام مجتمع يحبك ولا يرحمك.. أمام أناس يعرفون ما يريدون من الفرد، ولا يأبهون لما يريده الفرد منهم.. يفهمون حقوقهم عليك.. ولا يفهمون واجبهم نحوك.. أمام نفس الجموع التي سممت(هانيبال)، وأحرقت(سافونارولا)، وهشمت رأس(روبسبير)، والتي أحبتك دون أن تخصص لك حتى كرسيا في دار خيالة، أو منضدة في مقهى.. تحبك دون أن تعبر عن ذلك بشيء مادي بسيط ككرسي، أو منضدة في مقهى.. هذا ما فعلته وتفعله الجموع بمثل هؤلاء. فبماذا أطمع أنا- البدوي الفقير التائه- في مدينة عصرية مجنونة.. أهلها ينهشونني كلما وجد ونى: ابن لنا بيتا غير هذا.. امدد لنا خطا أرفع من ذلك.. ارصف لنا طريقا في البحر.. ازرع لنا حديقة.. اصطد لنا حوتا.. اكتب لنا تعويذة.. اعقد لنا قرانا.. اقتل لنا كلبا.. اشتر لنا هرا!!. بدوي فقير تائه لا يحمل حتى شهادة الميلاد.. عصاه على كتفيه.. لا يقف أمام الإشارة الحمراء.. ويخاصم الشرطي ولا يخشاه، ويأكل بلا غسل يديه.. ويطب ما يعوقه في سيره برجله حتى ولو أصاب به واجهة متجر زجاج.. أو وقع على وجه عجوز شمطاء.. أو حطم نافذة بيت أبيض جميل، لا يعرف طعم الكحول ولا حتى (البيبسى كولا) أو (الصودا).. يبحث عن ناقة في ميدان الشهداء.. وفرس في الساحة الخضراء.. ويحوش الغنم من ميدان الشجرة . هذه الجموع التي لاترحم حتى منقذيها، أحس أنها تلاحقني.. تحرقني.. حتى وهي تصفق أحس أنها تطرق.. أنا بدوي أمي، لا أعرف حتى صنعة الزواق، ولا أعرف حتى معنى المجارى.. وأشرب ماء المطر وماء البئربكلتا يدي.. وأصفي يرقات الضفادع بطرف عباءتي، ولا أتقن السباحة، لا على بطني، ولا على ظهري، ولا أعرف شكل النقود.. ولكن كل من يقابلني يطلب منى شيئا من تلك الأشياء.. فأنا لا أملكها في الحقيقة، ولكن خطفتها من أيدي اللصوص، ومن أفواه الفئران، ومن أنياب الكلاب، ووزعتها على أهل المدينة باشم فاعل خير قادم من الصحراء، بوصفي محرر عقود وأصفاد، إن ما سرقته المخالب وأفسدته- أحدهم رفيق أهل الكهف والجرذ ان- يحتاج إلى وقت طويل، وجهد أكثر من فرد.. ولكن أهل المدينة العصرية المجنونة يطلبونه منى في الحال، وشعرت بأن أنا الوحيد الذي لا أملك شيئا، ولهذا لم أطلب مثلهم"سمكريا"و"اسطي" وزواقا.. وحلاقا.. الخ، وحيث أني لم أطلب ؛لأني لا أملك، فصار وضعي متميزا.. بل شاذا؛ولهذا تعرضت وأتعرض في كل ساعة تقريبا لمذه المضايقات، ولكن لا أنكر أن أنا أيضا ساهمت في ذلك.. وظلمت نفسي، فأنا سرقت عصا موسى، وضربت بها الصحراء، فانفجر نبع، لأني لا أعرف- كما قلت المجارى، و(السمكرة)، والشبكات الضيقة، وطالبت بأن يريحنى هذا النبع من هذه الطلبات وأسبابها، فحتى تمردى على الشرطي نشر موجة من الاستهتار في المدينة كلها، وسمعوا باسمى، وبعضهم صفق لي، وبعضهم شتمني، وشرطة النجدة تريد أن تتخلص منى.. وعجوز كانت أما للشرطي تصابت، وطمعت في، وعندما رفضت حاولت أن تخلق لي مشاكل.. وقد يحاربونني بكلاب الشرطة الغبية.. وأنا الذي شجعتهم على أكل الحوت وصيده، حتى يتركوا لي شيا هي.. إنسان بسيط.. وفقير.. لست من سلالة ملكية، بل من سلالة بدوية، ولا أحمل شهادة دكتوراه.. فلا أحب الطبيب، لأنهم يسمونه دكتورا!! ولهذا لم يتمكن من تطعيمي ضد الحساسية، فأنا حساس جدا، خلافا لأهل المدينة الذين تم تطعيمهم منذ زمان بعيد، وعلى جرعات تاريخية من أيام الرومان إلى الترك وأخيرا(الميلكان).وأنا كما تقرءون وتضحكون،لاأنطق مثلكم كلمة(الأمريكان)أو(الأمريكيين )(بالراء)، بل أنطقها باللام، لأن لا أعرف معنى أميركا، فالذي اكتشفها ليس(كولومبوس)، بل أمير عربي، ولكن هي تملك القوة.. وتملك العملاء..وتملك القواعد في مناطق النفوذ.. وتملك حق النقض لمصلحة الإسرائيليين، وملكت أخيرا بيتا عند نقطة تفرع فرعى دمياط ورشيد .. وحوله مزرعة جاموس فهي إمبريالية، إذن هي(أميلكا)، هكذا قال الحاج مجاهد، ولد عمتي عزة بنت جدتي غنيمة أخت(الكونتيساماريا). عموما، أنا جنيت على نفسي بدخولي المدينة طواعية، ولاوقت لذكر السبب، المهم، كان ظرف تحد فحسب، إذن، أرجوكم أن تتركون أرعى شياهي، التي تركتها في الوادي، تحت رعاية أمي.. ولكن أمي ماتت وكذلك اختي الكبيرة، وقيل:إن لي أخوة ذكورا وإناثا قد قتلهم(البا عوض).. اتركوني وهمومي.. لماذا تطاردونني وتعرفونني على صبيانكم؟ حتى أصبحوا هم أيضا يضايقونني في كل مكان.. ويجرون ورائي.. ويقسمون أنه هو.. لماذا تحرمونني من الراحة؟..بل حتى من المشي في شوارعكم؟ أنا بشر مثلكم، أحب التفاح، لماذا تمنعونني من السوق؟.. ثم على فكرة، لماذا لاتعطوننى جواز سفر؟.. ولكن ماذا أعمل به؟ فأنا ممنوع من الخروج لغرض السياحة، أو العلاج إلا إذا كنت مكلفا بمهمة فقط، لذا قررت أن أفر بنفسي إلى جهنم.

وسوف أروى لكم قصة فراري إلى جهنم، وأصف لكم الطريق الذي يؤدى إليها، ثم أصف لكم جهنم ذاتها، وكيف رجعت منها مع نفس الطريق.. إنها مغامرة حقا، ومن أغرب القص الواقعية، وأقسم لكم أنها ليست من صنع الخيال.. إني هربت بالفعل إلى جهنم مرتين؟ فرارا منكم، ولكى أنجو بنفسي فقط، إن أنفاسكم تضايقني.. وتقتحم على خلوتي.. وتغتصب ذاتي.. وترغب بنهم وشراهة شرسة في عصري، وشرب عصارتي، ولعق عرقي، ورشف أنفاسي.. ثم تغظني مودعة لتعاود الكرة.. أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة، ولمجيل لعابها في شوارع مدينتكم العصرية المجنونة، وعندما أهرب منها تتعقبني عبر خيوط العنكبوت وورق الحلفاء، لذلك فررت إلى جهنم بنفسي فقط.

الطريق إلى جهنم ليست كما تتوقعون.. وكما وصفها لنا الدجالون الذين يصورونها لنا من خيالهم المريض، أصفها لكم أنا الذي سلكتها بنفسي مرتين، وتمكنت من المنام والراحة في قلب جهنم، وأقول لكم إني جربت ذلك، وكانت أجمل ليلتين في حيان تقريبا هما اللتان قضيتهما في قلب جهنم بنفسي فقط.. إن ذلك أفضل عندي ألف مرة من معيشتي معكم.. أنتم تطاردونني، وتحرمونني من الراحة مع نفسي، فاضطررت إلى الهروب لجهنم.. إن الطريق إلى جهنم مفروشة بالبساط الطبيعي على امتداد الأفق، وأنا أشق طريقي نحوها بفرح وغبطة.. وبعد انحسار البساط وجدتها مفروشة بالرمل الناعم.. وصادفتني أسراب من الطيور البرية من نفس الأنواع التي تعرفونها، بل وجدت حتى بعض الحيوانات المستأنسة ترتع وتفلي!! ولكنى فوجئت بانحدارات شديدة أمامي، وأرض منخفضة حتى توقفت بتردد وإذا بجهنم تطل من الأفق.. ليست حمراء كالنار.. وليست ملتهبة كالجمر.. وقفت- لاخوفا من التقدم نحوها، فأنا أحبها، وأرغب في وصالها، فهي الملاذ عندما تطاردونني في مدينتكم المثلثة.. وعندما تراءت لي من الأفق أمامي كدت أطير من الفرح.. وقفت لأسلك أقصر الطرق إليها.. وأختار أقربها إلى قلبها.. ولعلى أسمع لها زفيرا، ولكن جهنم ساكنة تماما وهادئة للغاية.. وثابتة كالجبال التي حولها.. ويحوطها سكون عجيب.. ويلفها وجوم رهيب.. لم أر لهبا.. ولكن الدخان فقط يخيم فوقها.. انحدرت نحوها بشوق.. مسرعا في الخطى قبل مغيب الشمس؛ أملا في الحصول على مرقد دافئ في قلبها قبل محاصرتي بحراسة جحيمكم التي انطلقت ورائي دون وعى، مستخدمة أحدث وسيلة وأقدم استعمالا.. أخيرا اقتربت جدا من جهنم.. واستطعت مشاهدتها عن كثب.. وأستطيع الآن أن أصفها لكم كما شاهدتها وأستطيع أن أجيب عن أى استفسار يتعلق بجهنم التي اقتربت منها:

أولا- لجهنم شعاب مظلمة ووعرة.. يخيم عليها الضباب، وحجارتها سوداء محروقة منذ أقدم الزمان، والعجيب حقا هو أن الحيوانات البرية وجدتها تأخذ طريقها إلى جهنم قبلي؛ فرارا منكم، فحياتها في جهنم، وموتها فيكم.. تلاشى كل شئ من حوالي عدا نفسي التي أحست بوجودها أكثر من أي مكان وزمان آخر. تقزمت الجبال.. ويبست الأشجار.. وجفلت الحيوانات، وغاصت في أدغال جهنم؟ طلبا للنجاة، وفرارا من الإنسان، حتى الشمس حجبتها عنى جهنم، وأصبحت لاشيء.. لم يبق بارزا إلا جهنم، وأبرز مافيها قلبها، فاتجهت إليه دون صعوبة تذكر.. أنا أيضا ذبت في نفسي، ونفسي ذابت في، واحتمى كل منا بالاخر وعانق كل منا الثاني، وأصبحنا شيئا واحدا لأول مرة، لا لأن نفسي كانت خارجى، ولكن جحيمكم لم يعطني فرصة لأخلو بنفسي، وأتأمل معها، وأناجيها، وتناجيني.. فنحن- أقصد أنا ونفسي- كمجرمين خطرين في مدينتكم، تخضعوننا للتفتيش والمساءلة، وحتى بعد أن تثبت براءتنا، وتعرف هويتنا، تودعوننا السجن، وتطوقوننا بحرس شديد، ومرادكم دائما أنتحولوا حتى بيني وبين نفسي؟ لأن ذلك يساعد في راحتكم أنتم واطمئنانكم. ما أحلى جهنم عن مدينتكم!! لماذا رددتموني مرة أخرى؟.. أريد أن أعود إليها.. بل أرغب في أن أسكن فيها! الذهاب إليها دون جواز سفر، اعطوني نفسي فقط.. نفسي التي اكتشفت أنكم شوهتموها، وحاولتم إفساد طبعها الحميد!!

حاولتم الحيلولة بيني وبين نفسي، ولكن بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم. لا أطمع منكم في شيء، احتفظوا لأنفسكم بورق صناديق القمامة.. وتركت لكم خوذتي الذهبية في القاهرة.. تلك الخوذة الصولجانية التي انتزعتها من الوكيل بعد أن سمعت وقرأت عنها.. وأن خاتم(شبيك لبيك)يصنع من الذهب المرصعة به.. وأن الذي يلبسها يصبح سلطانا في التو والحين.. ويستطيع الجلوس على كرسى الملك دون إخفاء.. تتنحى من أمامه الملوك والرؤساء والأمراء؛ غصبا.. ويستطيع إحياء الطفلة(معيتيقة) بعد موتها.. وإحياء كل الشهداء حتى عمر المختار، وسعدون، وعبد السلام أبومنيار، والجالط، والذين استشهدوا جنودا مجهولين. والذي يلبسها تصبح بين يديه أربعة ا لاف مليون دينار أو أكثر أو أقل بقليل، ويمكنه التصرف فيها كما يريد!! عموما، يصبح في يديه خاتم(شبيك لبيك) الذي تريده ياتيك.. إذا طلبت سلاحا يصير بين يديك: من البندقية إلى الصاروخ عابر الحدود.. وحتى السراب، يكون رهن إشارتك، ناهيك عن الميج والسيخوي، وتقدر أن تحبس وتطلق من تشاء من الإنجليز برغم أنف تأشر.. وفي نفس الوقت إذا لبست هذه الخوذة الصولجانية السحرية، تستطيع النوم بكل كسل، حتى ولو رأيت الذئب يفترس غنمك أمام عينيك المفتوحتين، يمكنكم إذن النوم وعيونكم مفتوحة عدة سنوات حتى ولو كنتم بين أكوام من الكناسة والأوساخ، لقد سمعت من صوت العرب أنكم محرومون من هذه الإمكانية الخلاقة، وقرأت عن الخوذة الفولاذية.. عفوا.. الصولجانية السحرية.. وسمعت أن إبليس يحمل رقم"صفر زائد واحد" قد استحوذ عليها مدعيا أنه ملاك وشهد له بذلك(تشر شل وترومان).

وصدقتم أنتم تلك الأكذوبة وانطلت عليكم الخدعة.. وكانت عاقبة أمركم خسرا. إلى أن أحسست بحالكم، وسمعت خطيب الجمعة في مساجدكم يقول: إن حالنا لايخفي عليك، وعجزنا واضح بين يديك.. ولاملجأ إلا إليك.. لبيك.. لبيك.

عشبه الخلعة والشجرة الملعونة

بشرى للمخلوعين والمخلوعات..! لقد وجدت عشبة في سهل بنغازي وهي الآن تباع في دكان الحاج حسن.. وحسب المقابلة التي أجريت معه شخصيا وشهدها أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد، فإن العشبة دواء شاف للمخلوعين.. أما الذين لم يتم خلعهم بعد، فلم يذكر الحاج حسن شيئا عنهم. ولكن بمجرد خلعهم تكون العشبة المذكورة بلسما ودواء لهم. هذا عن عشبة الخلعة.. أما بقية الأمراض، فالدواء متوفر لها أيضا في دكان الحاج حسن ولكن ليس بعشبة الخلعة.. بل بأعشاب أخرى.. ثمة عشبة للعقم بكل أنواعه حسب تأكيده بنفسه.. العقم الإنجابي.. والعقم الإنتاجي.. وربما الفكري أيضا وكذلك دواء الدوخة.. إذا داخ رأسك وأصابك الدوار لأي سبب حتى ولو دخت وأنت تبحث عن قميص لابنك كان بدينار واحد في السوق العام المملوك للشعب.. ثم وجدته الآن بعشرين دينارا في متجر خاص ورجعت الى السوق ولم تجد القميص هناك.. ثم رجعت الى المتجر الخاص ووجدته قد ارتفع ثمنه إلى(25) دينارا خلال غيابك خمس دقائق، فإن الحاج حسن يؤكد أن لديه عشبة دواء لمثل هذا الدوار التقطها من نباتات المراعى.. ناهيك عن الدواء الناجع الذي اكتشفه نفس الحاج حسن في شجيرة الصبيرالتى وجدها تنبت بكثرة داخل أسوار المقابر القديمة، وهي تعطى من يتداوى بها صبرا على ما يراه أمام عينيه من استغلال داخلي وهوان عالمي كصبر أهل القبور. وهذا هو سر نباتها داخل المقابر.. وفي هذا المتجر على الأقل قائمة طويلة من النباتات التي حسبما شرحها العم حسن تغنى عن الوقاية وعن العلاج.. وتكفيك مشكلة التردد على العيادات الخاصة والعامة.. والمستشفيات.. ولو هدانا الله واتجهنا الى هذا المتجر.. حتى ولو وقفنا ساعات أو أياما أو شهورا في أر تال طويلة للحصول على هذه الأدوية، لكان خيرا لنا من أي شئ وراءنا.. لم لا نوسع بالنا وننتظر في الصف حتى نشترى هذا الدواء؟ نحن قطعنا أشجار مزارعنا وحولناها إلى مبان.. ونحن ذبحنا حيواناتنا.. وسنذبح بقيتها في عيد الأضحى المبارك.. والمجتمع يعلم أولادنا على حسابه.. والإذاعة المرئية والمسموعة تبث لنا مجانا، وما علينا إلا أن نتفرج ونسمع وننتقد حسب مزاجنا.. ومجاراة لنا فهي تشترى أشرطة للرسوم المتحركة لتلهية أطفالنا عنا، ولا يهم إن كانت هذه الأشرطة ضارة أو غربية أو حتى من صنعها وما هي الفكرة من وراء صنعها، المهم أننا لا نعمل ولا ننتج ولا نتعب وراء أطفالنا، كل شئ يقوم به المجتمع.. والذي لا يعمل لا ينتج.. وياكل. وحتى الدفاع يبدو أنه ليس من مسؤوليتنا برغم أننا كذبنا على أنفسنا وقلنا: الدفاع عن الوطن مسؤولية كل مواطن ومواطنة.. فنحن نعمل جاهدين على التنصل من هذا الواجب المقدس، نحن دعاة سلام ومحبة.. وشعارنا(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)فعلى الإسرائيليين منا ا لسلام والرحمة والبركة.. وكذلك الميركان.. وحلف شمال الأطلسي وحلف داود. وعليهم أن يردوا علينا بنفس التحية أو بأحسن منها فننتظر كل يوم من الإسرائيليين وحلفائهم أن يقولوا:السلام على الرابطة وتاجوراء ورأس لانوف والقدس وبغداد. وفعلا نحن ما حاجتنا بمصنع الأدوية في الرابطة أو رأس لانوف ما دام الحاج حسن جمع لنا كل الأعشاب التي تشفي من كل الأمراض حتى مرض العقل والقلب والنظر.. والكرومة أو الكرامة فإن المقابلة كانت قد شوشت عندما كان الحاج حسن يشرح مفعول عشبة مهمة.. وسمعت أنه قال: ضد داء الكرومة أو الكرامة وربما حتى داء الشيخوخة لأنه حسب سمعي قال: عشبة ضد الكبر أو الكبرياء أوشىء من هذا عموما له علاقة بالشيخوخة على ما يبدو.

نحن إذن سعداء.. لقد تخلصنا من كل شيء.. مساكين الذين ليسوا مثلنا يدافعون عن أوطانهم بأرواحهم وينزفون دما من أجلها.. ويتصببون عرقا من أجل الإنتاج ويحفرون الأرض بأظفارهم.. ويزرعونها شجرا وفوما وقثاء.. مساكين الإسرائيليون الذين يعيشون وأصابعهم على الزناد ليحتفظوا باحتلال فلسطين. مسكين نورييجا وأورتيجا ..مساكين حتى الميركان الذين ينفقون المليارات لتسليح الفضاء دفاعا عن أمريكا.

أما نحن، فعلينا وعلى عشعبة الخلعة.. والخرشوف.. ويجب المضي قدما وبدون تردد.. ولا ترهبنا صيحات الاستنكار ولا يفت في عضدنا شئ.. المضي قدما وبكل عزيمة قوية ورباطة جاش.. في قطع الأشجار المثمرة فإن شركة المعمورة مكلفة شعبيا باستيراد المعلبات ولو من السماء، هلموا بعد أن تحررتم.. وأصبحت السلطة للشعب.. ولا سلطة لسواه.. هلموا لقطع دابر الزراعة واجتثاث جذورها والإسراع في التحول ليس التحول الثوري.. بل أقصد التحول.إلى تجار.. وسنفازة.. وباعة متجولين، علموا أولادكم الحفاية والسمسرة.. والتفريش في الشمس والزمهرير، استمروا أيها الأحرار اناء الليل وأطراف النهار في قطع الأشجار ومحو الاخضرار من على وجه الأرض الأبية، هشمو ا بسواعدكم المفتولة غابات الجبل الأخضر وأشجار النخيل من مزارعكم وابنوا على أنقاضها متجرا أو محل تزيين أو حلواني أو مقطع جير. ما قيمة النخلة ما دام العالم يصنع لنا الحلوى!!؟ نحن نفضل تمرا بلا شوك.. وبرتقالا بلا قشور.. وزيتونا بلا شجرة.. اقطعوا الأشجار وخاصة الشجرة الملعونة الزيتونة والنخلة.

هكذا سنقف على قدم المساواة مع الأمم القوية المتجبرة وسنكون في مأمن من الصواريخ ذات الرؤوس النووية.. ولهذا سنقهر التخلف الذي طال مداه وسنصنع التقدم..

الموت

هل الموت ذكر أم أنثى؟ العلم لله..

ولكن الشاعر الجاهلي القديم طرفة بن العبد يعتبره ذكرا حين يقول: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد والشاعر الجاهلي الحديث نزار القباني قال: يبدو أنها أنثى، لأنها اختطفت ابنه(توفيق). لكن لماذا السؤال؟ ماذا يفيد إن كان الموت ذكرا أو أنثى؟فالموت هي أو هو الموت. كلا.. بل من الواجب تحديد جنس الموت، ومعرفة إن كان ذكرا أو أنثى، فإن كان ذكرا وجبت مقارعته حتى النهاية.. وإن كانت أنثى، وجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير.

على كل.. لفظ الموت(المنية)ورد في الكتب، تارة مذكرا، وتارة مؤنثا.وأنا من خبرتي ومصائبي من الموت تأكدت من هذا.. فالموت ذكر، ومهاجم دائما، ولم يكن يوما في حالة دفاع حتى ولو هزم.. وهو شرس وشجاع .. ومخادع جبان في بعض الأحيان.. والموت يهزم ويرد على أعقابه خاسرا مدحورا. ليس كما يظن أنه ينتصر في كل هجوم. كم من معركة مقارعة وجها لوجه، خارت فيها قوى الموت وتراجع مثخنا.. وولى منهزما!! إلا أنه برغم الجراح وا لطعنات، وا للطمات، وا للكمات، وا لركلات ا لتي تصيبه عندما يكون هجومه في مواجهة مقاتل عنيد، فإنه لم يستسلم أبدا ولم يقع في الأسر.. ولم يسقط صريعا . هذا هو السر الخطر. وهذه هي الفائقة القاتلة والماحقة لكل فاعليات الحياة المضادة للموت.

فالموت مقاوم من طراز منقطع النظير حقا. ذو نفس طويل.. وصبر غير محدود، وثقة في النصر على الخصم تصل حد اليقين، مهما بدا خصمه منتصرا، وقويا، وله ركن شديد، ومهما خسر من معارك، ومهما أثخن، وقهر لاتؤثر فيه أصداء مهرجانات فرح الانتصار عليه التي يقيمها المنتصرون الواهمون ذوو الرؤى المحدودة، ولا تجعله تلك المظاهر ييأس ويقرر عدم معاودة الكرة. ياله من جبارذى تصميم لاتراجع فيه!!

قوة الموت ليست في ضرباته المسددة.. ولا في طعناته القاضية أو هجماته المظفرة فهو يخطئ ويصيب.. ويقضى وبفشل، ويهجم ويهزم، ليس كل ضرباته محكمة إطلاقا ولاكل معاركه رابحة.. لكن قوته في قدرته الجهنمية على تحمل واستيعاب وطحن كل تلك السهام والمعاول التي تصيبه، وشهيته الفظة في القدرة على لعق دماء جراحه وصد يدها، وتحويل كل تلك إلى طاقة قتالية نارية تؤدى حتما إلى سقوط خصمه.

وجدارة الموت بالنصر تأتي من كونه غير منحاز، ولا يستعين بأحد، فذلك نقص والموت غير ناقص. وتلك عمالة، والموت يناور ويتلون.. ولكن، لايمكن أن يكون عميلا. فلو اعتمد على أي حليف اخر، لأصبح رهينة، والرهينة ليست حرة، بل هي دمية.. والدمية يلقى بها في سلة المهملات بعد انقضاء الغرض من اللعب بها. ولو أن الموت عميل، أو ذيل، أو رهينة، أو دمية، لكان نصره المؤكد محل شك أكيد، والموت-كما قلت- ليس بطلا أسطوريا ذا مثل عليا، وأخلاق اجتماعية قبلية، وتربية بيتية عظيمة، تجعل صاحب هذه المناقب ملزما أدبيا بالتصرف المثالي حتى لا يمس تلك القيم بخزي. فهو مراوغ، ومتلون، ومتقلب، وقادر على التقمص، والانتحال! قد يأتي فارسا ممتطيا جوادا أبيض شاهرا. سلاحه دون وجل.. وجها لوجه. وقد يطعن من الخلف كما تفعل امرأة غير مدربة على السلاح.. وقد يأتي راجلا دون خوف.. وقد ينقلب منبطحا زاحفا متسترا بالتراب، موغلا في الغش والاختفاء.

كم من ضحية افترسها وهي في غفلة منه هانئة مطمئنة..! وكم من ضحية افترسها وهي نائمة حالمة في سبات عميق..!! وكم من ضحية افترسها وهي ضاحكة مستبشرة لاتفكر فيه..!! فلا تنتظروا من الموت رحمة ولا شفقة، فهو لن يأخذ بخاطركم، ولا يقدر ظروفكم.. ولا يحترم حياتكم، قد ينهش رضيعا من ثدي أمه، يقتله أمامها.. وقد يمد يده إلى داخل بطنها ليخرجه ميتا بعد طول انتظار.. وقد يخطف أحد العروسين في ليلة الزفاف.. وقد يداهم الأبوين، ويترك الأطفال.. وقد يفعل العكس، فهو هاذم اللذاط، وميتم البنين والبنات، كما تقول عنه الكتب الصفراء . إذن، لا ترحموا الموت ولا تستر حموه، فالأمر مقضي بيننا وبينه، فهو عدو لدود، لاصلح معه ولا أمل فيه، فلا ترحموه، ولا تتخاذلوا أمامه، فهو لن يرحمكم، مهما تخاذلتم، واستسلمتم، فهو يرفض المصالحة أصلا، وليس من طبعه التعايش السلمي. لقد قتل إخوتي في عمر الزهور، لقد جوع أسرتي حتى أجبرها على السفر إليه، وأغرى إخوتي باللعب معه في المستنقعات، فسقاهم سم هود فقتلهم!! أربعة أولاد وابنتين، ثم دخل في معارك طاحنة مع أبي الشجاع، وجاء في حملة(مياني) إلى القرضابية، وتقمص أزياء الجنود الطليان والإرتريين. كل ذلك من أجل أن يقتل أبى، أبى الذي بدأ يقاومه بشراسة بعد أن قتل اخوتي. أبى قرر الانتقام من الموت، ومن أجل ذلك قتل العديد من جنود العقيد(ميان) الذي تقمص الموت ملابسهم، حتى أصبح كل واحد منهم هو الموت ذاته.. وكم كانت شدة حيرة أبى عندما يرى استمرار سقوط شهداء الموت يمينه ويساره دون توقف!؟ على أنه في كل طلقة يعتقد أبى أنه قد قتل الموت، حتى أفرغ رصاص نطاقه وصاح: هل من رصاص لأقتل لكم الموت؟ فاجابه شاب منبطح في خندق قريب منه: هاهو نطاقي ملآن بالرصاص، ففرح أبى وأسرع لأخذ مزيد من الذخيرة، ولكن الموت كان أسرع منه، فما إن وصل أبى إلى الشاب، حتى وجده قد فارق الحياة!!

إذن، الموت يسمع ويرى، ولكن أبى كان مقاوما شرسا مثل الموت، أخذ نطاق الشهيد وداوم على مقاتلته، حتى أظمأه العطش، فطلب من عمه(خميس)شربة ماء ليواصل القتال، فهجم عمه على بغل الطليان المحمل بالماء بين صفوفهم؟ لياتيه بشربة منه.. ولكن الموت كعادته كان الأسرع فأطلق رصاصته القاضية على (خميس)فاصابته فوق حاجب العين اليمنى، حتى الدماغ، فتبعثر مخه على جسمه، وسقط شهيدا.. فجن جنون أبى وخرج من الخندق، وقرر القتال واقفا، وتحدى الموت وجها لوجه عندما قال له : (نحن أولاد موسى) إن كنت ذكرا فاخرج إلى أيها الموت الجبان.!! ولكن الموت، لم يستجب للاستفزاز، ولم يرفع يده معلنا عن مكانه، أو يرفع هامته شجاعة.. بل رد بمزيد من الرصاص الملتهب.. لكن الذي استجاب للتحريض ليس الموت، بل مجموعة من الشجعان هتفوا مستجيبين لأبى: (نحن أولاد الحاج.. نحن أولاد الحاج).. وهجموا وقوفا على الموت دون خوف، فأسرع اليهم أبى لينضم إلى هجومهم، ولكن الموت دائما أسرع، فحصدهم برصاصه قبل وصوله إليهم. فلما اشتد النزال بين الموت وأبي طلب منه رفاقه عدم الاقتراب منهم، حتى لا يصيبهم الموت كما أ صاب(خميس) وأولاد ا لحاج.. والأطرش والصهبي.. ومحمد بن فرج.. الخ، واستمر أبى يقاوم الموت، من الصباح حتى المساء، عندما خارت قوى الموت، وضعفت عزيمته، وقرر الفرار، ليعيد الكرة مرة أخرى، ولكنه ترك هذه المرة تسع ضربات بالرصاص في ثياب أبى وجسده، دون أن يتمكن منه.

قلت لكم: إن الموت يهزم ويولى الأدبار،ولا يخجل من الخذلان، ولا ييأس، لأن ثقته بنفسه أقوى من اليأس.. وتأكده من النصر النهائي أعظم من الهزيمة المؤقتة، والخذلان العابر، والسر أن قوته في ذاته، وليست بدعم من أمريكا!

ولم تمض ثلاث سنوات، حتى عاود الموت الكرة، أملا في الظفر بأبي هذه المرة.. ودارت بينهما معركة ضارية أسوأ من القرضابية. وقد انتحل هذا المحتال في هذه الموقعة( قيافة) وهوية مجند في عسكر السنوسي الموالي للطليان في سرت وإجدابيا. واذا كان الموت متحديا هذا اليوم، ومزهوا بكثرة عدده وعتاده، وجازما بالغلبة، فإن أبى أكثر تحديا منه، وإن كان أقل زهوا وأضعف أملا، إلا أنه أكثر استهتارا وأبعد تهورا. فالموت يقهقه.. وهو يرى جند السنوسي يزحفون كالجراد ليحتلوا التباب والوهاد المحيطة بحفرة(كلايا) قرب منجم الملح، ويحولوا لون الرمال الصفراء إلى ألوان سوداء وبيضاء حسب زيهم الرسمي،وقد تغطت المنطقة بمئات الرجال المجندين لمصلحة الموت،ويرى أبى في عدد قليل من(السبائع) وعدد أقل من غيرهم. كان يوما مشئوما عبوسا قمطريرا، من صباحه حتى مسائه.. الموت بكامل استعداده.. وأبى بكامل شجاعته.. الموت حوله جحافل من عساكر السنوسى العميل.. وأبى حوله رهط من الرجال الأشاوس الشرفاء.. وحيث إن الموقف سيئ، والنجاة ميئوس منها، والمعركة غير متكافئة، قرر أبى القتال بلا تحفظ.. وأعلن استهانته بالموت وجيشه وما قد يصير.. فلم يحفر خندقا، ولم يرم من وضع الانبطاح، بل اتخذ وضعي البروك والوقوف.. وقد امتزجت الشجاعة واليأس، وما أروع امتزاجهما! وما أقساه على الحياة!! لكن ضربات الموت تصيب الرفاق دونه، تماما كما فعلت يوم القرضابية . فها هو أبو إصبع مضروب على قلبه.. وهاهو قذاف الدم في الرمق الأخيرو... وها هي الشمس تنحدر على رأسها نحو الأرض، كأنما أصابتها رصاصة طائشة.. بعد قليل سيخيم الظلام وتضيع فرصة العمر.. فعربد الموت وهو يتميز غيظا على أبى الذي يتحداه منذ الصباح، فصوب عليه بندقية (موسكوف)كان قد زوده بها قيصر روسيا، وتأكد من إصابة القلب، ولكنه أخطأ فأصاب كتفه من الأمام إلى الخلف، محدثا خرقا خطرا في الجهة ا ليسرى.

قلت لكم.. ليست كل ضربات الموت مسددة، ولاكل طعناته قاضية، فهو يخطئ ويصيب، ويقضى ويفشل،وإن كان قد أفقد أبى القدرة على مواصلة القتال، وسبب له شللا جزئيا مستديما، لكنه لم يفقده حياته حتى هذه المرة.

قلت لكم: إن الموت ليسق شجاعا دائما، وليس مواجها في كل الحالات.. وإنه جبان في بعض المرات.. ويطعن من الخلف، ويقرص من الرنجل، ويغوص في التراب.. فبعد أن أعياه النزال ومقارعة الأبطال في معارك تصادمية، كالملح والقرضابية، ولم يتغلب على أبى ويقتله.. وحيث إن الموت اللعين- كما أكدت لكم لا ييأس.. ولا يترك خصمه مهما غلب، فهاهو يتقمص حية رقطاء، في واد خال غير ذي زرع ولاماء، فينهش عقب أبى بكل غدر وخيانة وجبن، في أعماق ظلام ليل بهيم، تحت جذع طلحة صحراوية ذات أشواك قديمة مرعبة.

هذا هو الموت الرهيب ممتطى الحصان الأسود في ساعة الغضب الشديد، والجواد الأبيض في لحظة التحدي السافر العنيد.. الموت الذي شهر سيفه في وجه القادة العظام دون خوف أو وجل. هاهو يتواري عن الرؤية، ويأتي من الخلف، لا بالمواجهة، ومن تحت، لا من أعلى، ويعض لا يطعن، وينكمش لايبرز، ويقطع الأعقاب بدل الرقاب. هكذا تحول الموت الرهيب الذي يملأ رعبه الافاق، تحول أمام أبى هذه المرة إلى حية خبيثة سامة وإن داسها بقدمه القوية الخشنة، إلا أنها قدرت على لسعه في تلك القدم، وظن الموت أن هذه هي الحيلة القاتلة، والخطة الماكرة. فبعد فشل المبارزة، يضطر الموت الى المواربة.. وبعد المجابهة في وضح النهار، هاهو يتخنس من وراء ستار. واعتقد أن حية صحراوية تلدغ إنسانا وحيدا في واد بعيد، حيث لا مستصرخ له.. قاضية بموته حتما!! هكذا كانت تدابير وتوقعات الموت المغرور بقطعية انتصاره، وغاب عنه أن إرادة الحياة تدمر تدابيره، وتخيب تخميناته، وأن تلك الإرادة قادرة على إبطال مفعول السم الزعاف بطبيخ الشاي الأحمر المعتاد، وأن عدة جرعات من ذلك الشاي الأحمر المطبوخ ودون سكر، وعدة تقيؤات، جعلت أبى يهب واقفا منتصرا على الموت المحقق منذ لحظات، ساخرا منه شامتا به، دائما على رأس تلك الحية الملعونة التي تقمصها الموت في تلك الفيافي البعيدة.

ولكن الموت-كما قد عرفنا من هذه القصة- لا يموت ولا ييأس مهما أثخن وهزم، فالحية قتلها أبى برجله القوية غير المرتعشة في القتال، أو في دوس الحية بالنعال.. فهي دائما ثابتة وقوية فوق أرض المعركة أو فوق رأس الحية. بيد أن الموت هرب مسرعا من تحت قدم أبى، وتقمص حية أخرى كانت موجودة في طريق أبى وهو عائد إلى بيته، فعندما مد يده إلى قش شجيرة، ليوقد به النار، مسكت به تلك الأفعى الثانية، وأفرغت لعابها القاتل في يده حقنة واحدة!! وحيث إنه يعوزه الشاي الأحمر هذه المرة، وفي بقعة ليست موحشة، وبعيدة كالمرة السابقة، فإن الموت ظن أن تلك عوامل ضعف، لأنها خالية من بواعث التحدي التي كانت متوفرة، عندما كان الموقع بعيدا، وأبى فريدا، وموته يومئذ مأساة، كل ذلك مدعاة لمغالبة الحقيقية، وتسخير كل إمكانات الإرادة لقهر مشيئة الموت. أما هذه المرة، فالناس موجودة حوله، وفكرة الاتكال على الآخرين، والطمع في مساعدتهم له، تجعله فاقدا لأسلحة المقاومة والتحدى، وبالتالي توقع الموت أن خصمه العنيد لن يفلت منه هذه المرة، ولكنه نسى أن طريقته الخبيثة هذه غبية، من ناحية أخرى فهو قام بتطعيم أبى ضد سم الأفاعي، بتكراره لدغه بها دون أن يدرى. وهكذا لم تؤثر فيه اللسعة الثانية إلا تأثيرا خفيفا مؤلما، ولكنه غير قاتل.

إن أبى يطول عمره.. والموت يطول نفسه.. أي يستمر عناده.. والموت لا يتوقف عن اصطياده. إلى هذا الحد في تتبعنا لهذه القصة الدرامية، يمكننا القول: إن الموت ذكر حقا في كل المواقف.! وإنه أنثى في مواقفه الأخيرة.. ولكن الأمر اشتبه علينا.. فحتى عندما تحول إلى أفعى أنثى، كان يستوجب المقاومة كما لو كان ذكرا.. فالحية السامة عدو لدود، وحيث إنها عدو، إذن هي في حكم الذكر.. وبالتالي كانت مقاومتها، مثلها مثل الجندي الإرتري أو الطليان يوم القرضابية. ونحن بصدد التأكد من هوية الموت: هل هو ذكر أم أنثى كما بدأنا القصة.. وقلنا: إن كان ذكرا، وجبت مقاومته حتى النهاية، وإن كان أنثى، وجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير.

وحتى الان في هذه القصة، أبى يقاوم، ولم يستسلم، إذن، والحال هكذا فالموت ذكر. ولكنى تأكدت أخيرا من أنه أنثى،لأن أبى قد استسلم لها حتى الرمق الأخير يوم8 من مايو 1985م. ولم يحرك ساكنا لمقاومتها، ولأول مرة أراه مستسلما في المقاومة، بل يرفض أحيانا أي تدخل ضد الموت، بل يدافع عنه، مما يدل على أنه أنثى، بل أنثى من النوع القديم الذي قال فيه القرآن(ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)، فهو يدافع عنه ضد أي تدخل عندما كان قادرا على المقاومة.. واستسلم له بعد ذلك استسلاما هادئا، كأنه ليس هو الموت المخيف، كأنه ليس ذلك الفارس الممتشق الحسام الذي يبعث مظهره على التحذى بالنسبة لرجل شجاع كأبى..

وكأن طبول الموت- وهي تدق على وتيرة متصاعدة- ليست إلا أغنية مخدرة تلقيها أم كلثوم، فكلما اقترب موكب الموت، وتعالت دقات طبوله المزعجة، استرخى أبى فوق سريره، وابتسم بلا معنى بالنسبة لنا ابتسامة طفل في المهد.. وأصبح أكثر هدوءا وطمأنينة، حتى خيل لنا أن ضجيج موكب الموت الذي يرعب الأصحاء بدنيا، هو أغنية مخدرة لأحد المشهورين المغنين المصريين بالنسبة للمرض، وحتى ظننت أنه لا يلزم مخدر كيماوي لمعالجة المريض، وإنما تكفي أغنية مصرية طويلة.. ولكن الطبيب اعترض على ذلك، ورفض التدخل في اختصاصه، حيث أكد أن استنتاجاتي كلها سقيمة وبعيدة كل البعد عن الحقيقة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الركون إليها.. وخجلت أمام علم التخدير الذي لا أعرفه، ولكنى أنقذت الطبيب من الحرج، وأكملت بنفسي ما كان يجب أن يقوله وهو صحيح، ولكنه أحجم، حيث واصلت نيابة عنه أني جاهل في عملية التخدير جهلا تاما، وأني خلطت بين تخدير الأصحاء وغير الأصحاء، وأني بالغت في مفعول الأغاني المصرية، حتى اعتقدت أنها تؤثر على المرض، والصحيح أنها تؤثر على الأصحاء فقط، ومشهود لها من عام 1948 م بالفاعلية والتأثير، وقد جرى تجريبها على أكثر من مائة مليون عربي، وأثبتت نجاحا مدهشا؟ ولكن لسوء الحظ- وهو عكس ما توقعت- لابد من استعمال المخدر الكيماوي للمرضى عند المعالجة الجراحية وما إليها. وثبت أن المرضى بدنيا لاتؤثر فيهم تلك الأغاني، بل إن الأطباء ينصحون بعدم إسماعها لهم خشية أن تسبب بعض المضاعفات مثل القيء.. أما الأصحاء ومن في حكمهم كالمرضى نفسيا وعقليا، فينصحون بسماعها إذا أرادوا أن يدخلوا في غيبوبة صناعية، أو تخدير غير كيماوي. وأكد الأطباء أنه لامضاعفات لها بالنسبه لهم، وإن كانت لها مضاعفات غير كيماوية طبعا فستكون على قضية هؤلاء الناس وعلى إنتاجهم، أما أجسامهم فلا خوف عليها منها. وعندما لاحظت أنها قد تؤثر على النفس أو العقل، رد الطبيب دون اكتراث قائلا: النفس.. العمل.. المزاج الخ، أشياء معنوية لاتهمني كجراح.

على العموم، إن أبى يسترخى، ثم يسترخى، بينما نحن نتشنج، ونتمزق جزعا وألما، ونبكى في بعض الأحيان، وهو يبتسم وينشرح وسط غيبوبة الموت. يا ترى!! هل هو الموت الذي كان يقاتله في معركة القرضابية وتالا ويوم الملح؟! وهو الأفعى السامة التي تربصت به في صحراء خالية وفي مناسبات أخرى؟! أهو الموت العدو اللدود المتحدى.. الواثق المغرور الذي يبعث تحديه وثقته على الاستفزاز والتهور؟! لا أعتقد أنه هو، وإن كان هو، فهو ناجح في الخداع إلى درجة ليس لها مثيل. إذ إن أبى لم يقاومه هذه المرة، كما كان طيلة عمره، القاهر له، المنتصر عليه،برغم ما كانت تتوفر للموت من عدد وفرص قاتلة. إذن،الموت أنثى. وإن كان كذلك، فيجب الاستسلام له حتى الرمق الأخير، وهذا ما فعله أبى.

النتيجة، هي أن الموت يفشل في المعركة في معظم الأحيان عندما يأتي في سحابة من النقع، وألوية سوداء خفاقة في قلب العاصفة. إن الموت في هذه الحالة-وهو يظن أنه يركب جواد الرهان الرابح- إنما يركب جواد الغرور؟ لأنه بهذا يدفع خصمه على التحدي والاستهتار، الأمر الذي يؤدى إلى هزيمته. ولأنه في تلك الكيفية، يظهر كرجل شجاع للغاية، تجب مقاومته، حتى النهاية، والمقاومة تقود في أغلب الأوقات إلى النصر. أما المرات الخطرة التي يصل فيها الموت إلى غايته بسهولة، فهي التي يتحول فيها إلى أنثى. والأنثى يجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير كما أكدنا في بداية القصة.. فالاستسلام لا يوصل إلى النصر أبدا، والموت عندما يغير أسلوبه، يتوخى من خصمه الاستسلام في حالة ظهوره كأنثى. وبالتالي ينتصر بلا مقاومة من خصمه .

وهكذا، فالموت واصل إلى غايته لامحالة، مهما طال الصراع، ولا يرحم خصمه مهما استسلم.. ومهما جبن.. وأبدى من ضعف ومسكنة حتى ولو أصبح ساداتيا!!. فعليكم مقاومة الموت لإطالة أعماركم، مثل أبى الذي لم يستسلم له يوما، وقاتله دون خوف منه؛ حتى بلغ عمره مائة سنة، برغم أنف الموت الذي أراد أن ينهيه في الثلاثين.. فالموقف الصحيح هو المواجهة، أما الهروب حتى إلى الخارج، فلا ينجى من الموت.."أينما تكونوا يدر ككم الموت ولوكنتم في بروج مشيدة.." ولكن إذا ضعف الموت نفسه، وتحول إلى أنثى غير جماهيرية وغير لاتينية.. وجاء حريما مستسلما بلا سلاح، ودخل بسلام وبإغراء وسكينة حتى أحسسنا به في كل ذرة من جسمنا وأسكرنا بهواه.. وأخذ يدغدغنا، حتى يضحكنا ونحن في سكرته، فليس من الرجولة مقاومته ومقارعته حينئذ.. بل من الواجب الاستسلام له حتى الرمق الأخير وهذا ما كان....!

ملعونة عائلة يعقوب.. ومباركة أيتها القافلة

من منا لا يسمع بعائلة يعقوب..؟ بل من منا لا يبجلها ويعظمها..؟ كيف لا، وهي تفاخر أمام العالمين بأنها عائلة يعقوب عليه السلام!!؟ وابنها يوسف نبي الله، والأمين على خزائن الأرض..!!؟ وهل يجوز للعالمين طرا أن يتجاهلوا، أو يجهلوا يوسف، ونبوءته الصادقة!؟ كلنا نعرف هذا، والعالم كله يعرفه. فهو المتنبئ بالغد، والمفسر للأحلام، وهو الصادق الأمين، وهو الذي اجتباه ربه، وعلمه من تأويل الأحاديث، وقد طبقت وسامته الافاق، حتى راودته زوجة عزيز مصر عن نفسه،"ولقد همت به"،"وقدت قميصه من دبر"، وكانت من الكاذبين، وهو الذي أكبرته نسوة المدينة،"وقطعن أيديهن وقلن حاش الله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم"، حتى كاد يصبو إليهن. وهو بعد ذلك تنبأ بما سيؤول إليه حال مصر، وسنيها العجاف، بعد سنيها السمان، ويبسها بعد اخضرارها..

إذن، من حق عائلة يعقوب أن تتفاخر، وتعظم نفسها، فهي مباركة وعظيمة، أبوها يعقوب الكظيم، وابنها يوسف. ألا تستحق التكريم، والتفضيل!!؟ وأن تطلب أن يفتح لها الطريق.. في المطارات. والأفراح وكل المناسبات الاجتماعية..، وحتى المؤتمرات- إن وجدت-وأن يشار إلى إخوة يوسف بالبنان!!؟ ياله من مجد من الله به على هذه العائلة!!

هذا ما كنا نعرفه عن عائلة يعقوب، وهو قمين باحترامنا لها، وتقديمها علينا..! ولكن، لنعلم أنها ملعونة عائلة يعقوب.. وأنها ليست مجيدة، ولا مباركة. تلك هالة مزيفة خلقت حولها.. وتمجيد في غير محله لعائلة يعقوب التي لا تستحقه.

ملعونة عائلة يعقوب؟ حتى وإن كان جدها إسحاق، وابنها يوسف. إنها من أحط العائلات،وأشدها كفرا،ونفاقا.. وإنها حرية بالخزي والتحقير.ألم يدعوا أنهم حراس يوسف من الذئاب!؟ وأنهم المؤتمنون عليه دون العالمين!!؟ وأنهم له الحافظون!!؟ ألم يقل لهم أبوهم:(وأخاف أن ياكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا الخاسرون)..؟

ملعونة عائلة يعقوب. لقد سولت لأبنائها أنفسهم أمرا حقيرا، فتآمروا على يوسف نبي الله، قالوا (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا)، وقد اختصموا، وتنازعوا، واختلفوا حول الطريقة التي يتآمرون بها على يوسف، ويخونون أباهم يعقوب عليه السلام. (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب).لكن يوسف كان يعلم بهذا، (وهم لا يشعرون) (وجاءوا على قميصه بدم كذب).

ملعونة عائلة يعقوب، كذابة،. وغادرة، وخائنة، لقد عروا يوسف من ثيابه(أقصد أبناءها) ،وشوهوها بدم مزيف، وأبعدوه عن الناس، وألقوا به في الجب. فعلوا كل ذلك؛ ويوسف يسمع، ويرى، ولكنه لم يصرخ في وجوههم،ويقل لهم: خونة... قذرون... غدارون.. أ أنتم إلخوتي!!؟

يوسف كان صابرا صبرا جميلا، بما أوحى الله إليه: (لتنبئهم بامرهم هذا)، وكان بريئا براءة الذئب من دمه، بل كان يبتسم لهم، ويداعبهم، وهم يحفرون له في الجب، كان يعرف ذلك، ويعرف أنهم فاشلون، ولم يقل لهم: إنكم تغدرون بي، وتكذبون على أبي. ولم يقل لهم: سأنبئكم بعملكم هذا، في يوم ما، وتسود وجوهكم، وأنتم مذنبون، مدينون، ومحقرون من العالمين.

هم أيضا كانوا في وجهه يضحكون، إمعانا، في الغدر، والحيلة الفاشلة، وكانوا من ورائه يمكرون.(ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). ملعونة عائلة يعقوب.. ومباركة أيتها القافلة !!

نعم، إن القافلة هي التي أخرجت يوسف من غيابات الجب، انصرف أخوته عنه، وأدلت القافلة دلوها في الجب، ووجدت يوسف فيه. إن القافلة المباركة أنقذته، والمدينة أكرمت مثواه. ملعونة عائلة يعقوب... ومباركة أيتها القافلة!! من منا بعد هذه الفضيحة، يحترم، أو يبجل عائلة يعقوب؟ ومن يامنها بعد هذا على يوسف..؟

ولكن أخوة يوسف لم يقتلوه.. وكان في إمكانهم هذا، لأنهم الحفظة عليه!! حقا لم يقتلوه، إما لأنهم اختصموا،واختلفوا في هذا الشأن كما ورد في تقرير القرآن- وإما لأنهم لم يقووا على ذلك. أو لكونهم أخوته، فلا تتحمل قلوبهم رؤية دمه الحقيقي، وأن تتحمل دما كذبا غيردمه، وفضعلوا أن يموت تدريجيا في الجب، أو لكونهم أخوته كذلك، لم يقرروا قتله بأية طريقة كانت، وتركوا مصيره في يد القافلة التي يبدو أنهم يعلمون أنها لن تتركه"قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين" وأغلب الظن أن الخوف من أبيهم وغيره هو السبب.

ملعونة عائلة يعقوب، ومباركة أيتها القافلة!! ومخدوعون نحن، عندما أكبرنا عائلة يعقوب، لأن ابنها يوسف…. وجهرنا ذلك الموكب المهيب من الكواكب، والشمس، والقمر، حول يوسف، وقلنا: يالها من هالة عظيمة تحوط يوسف من عائلة يعقوب!! وفضلنا، أو أجبرنا على أن نتفرج من بعيد، بأفواه فاغرة!! وإذا أغلقناها نصفق بحرارة(إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).

(لقد كان في يوسف وأخوته آيات للسائلين).. ماذا لو لم تفتضح هذه العائلة...؟ ويشرع إخوة يوسف في تدبير هذه الخيانة المنكرة، التي وجلت من فظاعتها القلوب؟ وتكاد السموات يتفطرن من شدة وقاحتها، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، وتدب قشعريرة التقزز في أبدان سامعيها!!؟ لقد أتت عائلة يعقوب شيئا إدا،.

ماذا لو احتفظت بمجدها ومكانتها بين العالمين، وعاش إخوة يوسف حواريين من حوله، يحرسونه، ويدبرون أمره، ويسمعون قوله!!؟

ألم يستغفر لهم ربهم بعد هذا كله!!؟و(آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو).

ولكن، حسنا فعلت عائلة يعقوب، لولا هذه الفضيحة الشنيعة، أوالشنعة الفاضحة. أي أن عائلة يعقوب شانع ومفضوحة، بعدان كنا نحسبها محترمة، ومباركة، لا لأن لها مجدا تليدا في الغابرين، أو أن لها مالا ممدود، أو ماء مسكوبا، أوبيتا معمورا، أوسقفأ مرفوعا... على العكس تماما، فهي- أصلا-عائلة مجهولة، محتقرة، وضيعة، وتابعة، تسكن البادية- كما هو مذكور في القرآن- وهي عائلة بطبيعة حالها من الرعاء، وأقصى انتصار لإخوة يوسف كان يمكن تحقيقه، هو الانتصار على ذئب، أو ثعلب، ولا يحلمون بالانتصار على الامبريالية والرجعية. هذا المجد العالمي العظيم، لا يدورفي مخيلة أحد من أبناء عائلة يعقوب، ولا تحلم بمجد مصر وخزائنها، إلا يوسف الذي كان يرى الغد، واختص بتأويل الأحاديث. لولا هذه الفعلة ؛ ماذا كان حال عائلة يعقوب؟ بل ماذا كان حال العالمين معها..!؟ كان يمكن أن يحملها الناس على أعناقهم تقديسا لها ؟ ألم تنجب لهم يوسف!!؟ وكان يمكن أن تكتسب حق الإخراج في طريق السابلة، لا لأنها عائلة يعقوب، التي أنجبت يوسف، الذي أوحى الله إليه، وجعله نبيا، وأمينا على خزائن الأرض، ومفسرا للأحلام،وتعشقه النسوة....

حمدا الله، الذي كشف لنا عائلة يعقوب في القرآن الكريم، واتضح أنها لم تكن حفيظة على يوسف، بل كانت تكيد له كيدا، وتمهله رويدا؛ فهو يبنى لها مجدا، وهي تحفرله جبا. إن أبناء عائلة يعقوب خبثاء، وتافهون، فيوسف يبنى لهم بيتا من العزة، وهم يخربونه بايديهم.

ومع هذا، يجب إنصاف من يمكن إنصافه من عائلة يعقوب؛ إذا كان فيها من ينصف نعم، يبدوان أكبرهم، وأصغرهم، الذي هو أخ لهم من أبيهم- كما ذكره القرآن- فاكبرهم هو الذي أشار على حثالة عائلة يعقوب الخائنة بالا يقتل يوسف، وأن يلقى في الجب، تلتقطه بعض السيارة.. أما أخوهم من أبيهم! فهو الأصغر، والذي كان إلى جانب يوسف.. وكان مكروها من قبل أبناء تلك العائلة الملعونة، وهوا لذي أرادوا أن يتخلصوا منه، وأن يغدروا به، كما غدروا بيوسف، حيث تركوه رهينة في مصر، عندما ذهبوا إلى يوسف يمتارون، وكانوا له ناكرين. ملعونة عائلة يعقوب... مباركة أيتها القافلة.

أفطروا لرؤيته

قال الرسول (ص) : (صوموا لرؤيته.. وأفطروا لرؤيته وإن غم عليكم فاكملوا الشهر ثلاثين يوما). هذه هي السنة التي درج المسلمون عليها بهذا الخصوص.. ولكن الأخذ بهذه السنة المحمدية أوقع المسلمين في مشاكل كل سنة بشان الصوم والإفطار والحج ترتيبا على ذلك إلا هذا العام وسنعرف كيف أن هذا المشكل قد حسم هذا العام فقط. أقول: إن الرؤية تختلف من منطقة إلى أخرى بل من قارة إلى قارة حيث انتشر الإسلام على نطاق عالى، وقد عجزت المقاييس المحلية عن ذلك، لأن الرؤية في الجزيرة العربية في ذلك الوقت، بل الرؤية في مكة أو المدينة ربما هي المقصود فقط حيث الاتصال كان معدوما انعداما كاملا، وبالتالي لا يعقل أن ننتظر وصول خبر رؤية سكان اليمن للهلال ونحن في مكة أو المدينة، إن المسافر لكي يخبرنا بذلك يحتاج إلى أكثر من شهر ليصل ويخبرنا عن رؤية الهلال.

أما ألان وقد أصبح العالم متصلا اتصالا كاملا بسرعة وهي سرعة الصوت 340م /ثانية فبالإمكان جدا الإبلاغ عن رؤية. اطلال عبر العالم الان، ولكن المشكلة لم تحل حتى بهذا التحول العلمي الخطير.. إذ آن الطين زيد بلة، وأصبحنا نعرف حقيقة العالم أكثر من أيام زمان.. وبالتالي زاد المشكل تعقيدا.. وزادت الخصومة بين المسلمين فقهاء.. ودهماء.. وسلاطين.. ومساكين. فالسعوديون لا يريدون الحج بالجمعة تجنبا للزحمة وما يترتب عليها من مشاكل جمة بالنسبة لمم وهم على حق في ذلك من تلك الناحية. وهم محقون أكثر إذا تأكد أن الحج بالجمعة يؤدى إلى وفاة أحد أفراد العائلة المالكة لاسمح الله.. هكذا يتشاءم الأخوة في السعودية من الحج بالجمعة، فليكن الحج بالسبت أو الأحد ولا المجازفة بحج الجمعة وفقد أحد الأمراء والعياذ بالله!!.

من الحقائق التي كشفتها لنا العلوم الحديثة وسرعة الاتصال التي كنا نعتقد أنها تسهل علينا وحدة الصوم ووحدة الإفطار.. وبالتالي وحدة الحج، ولكن اتضح لنا أنه عندما تكون الجمعة في إندونيسيا يكون الخميس في ليبيا أى يوم 30 شعبان في ليبيا هو يوم غرة رمضان في إندونيسيا أو في مستعمرات جزر سليمان في المحيط الهادي فإذا بلغت إندونيسيا هاتفيا عن رؤية هلال شهر رمضان تكون ليبيا في شهر شعبان.. وهكذا ثبت أن الرؤية لايمكن إلا أن تكون محدودة.. ومحدودة جدا وكل منطقة تصوم لرؤيتها.. وتفطرلرؤيتها، ولكن المشكل هو الحج. أما مسالة الصوم والإفطار فلا تخلق أى مشكل عمليا.. أما المشكل العملي الحقيقي فهوفي الحج. فإذا قام الناس للحج من كل فج عميق وقد حددوا يوم الطواف ويوم الوقوف ويوم رمى الجمرات وفقا لدخول عامهم ووفقا لصومهم وإفطارهم فهذا يعنى أن كل جماعة من المسلمين يكون لها حج مخالف لأيام الجماعات الأخرى ولن يكون يوما واحدا للوقفة والنحر.. إلى آخر مناسك الحج وتلك مشكلة كبيرة روحية وعملية خاصة للاخوة السعوديين، لكن الأمر حسم هذا العام فقط وقد حسمه الجنرال نور اشوارزكوف نفسه جزاه الله خيرا،. فقد قرر في وف مسبق، ومنذ الأسبوع الأول من رمضان أن يوم عيد الفطر هو يوم الاثنين الموافق15/4/1991 لميلاد عيسى عليه السلام، وبالتالي حدد أيام الحج بصورة قاطعة لا لبس فيها ووفقا للتاريخ الإفرنجي بغض النظر- حسب قرار الجنرال اشوارزكوف- عن رؤيته من عدمها(أقصد رؤية الهلال وليس الجنرال المذكور)وسواء أكان شعبان ناقصا أم كاملا.. وسواء أكان رمضان 28 يوما أم ثلاثين يوما أم حتى أو المسالة غير قابلة للنقاش ولا خاضعة لرؤية الهلال أو عدم رؤيته.. سواء أكانت القضية قضية سنة أم فرض.. قال الله وقال النبى. قرار الجنرال اشوارزكوف غير قابل للمراجعة.. الأمر يتعلق بامن القوات الأمريكية وحليفاتها وأمن تراب المملكة العربية السعودية بالكامل الذي يشمل بيت الله وقبر رسوله فرمضان يجب ولو لأسباب أمنية- أن ينتهي على الأكثر يوم الأحد الموافق14/4/1991 بالنسبة لجميع المسلمين الذين صاموا بالسبت أو الأحد أو الاثنين، يوم14 يعنى يوم14، سواء غم عليكم أو قطعت حتى أنفاسكم ومن المفزوع منه أن يكون غرة شوال هو يوم15/4/1991 حتى ولوكان قمرا مكتملا أولم يولد بعد ولو أدى الأمر إلى اختيار شهر آخر للحج فليكن شوالا نفسه أو ذا القعدة وللمسلمين احتر اماتهم وسيادتهم وخيار اتهم في دينهم ليختاروا أي شهر يشاءون إذا لم يقبلوا بتوقيتات الجنرال نور. وهذا لا يخالف القرآن كما قال شوارزكوف نفسه" الحج أشهر معلومات" إذن هو أشهر وليس شهرا واحدا. كما أن الجنرال نور اشواررزكوف لم يحسم هذه القضية الإسلامية فقط والتي كانت دائما محل جدال من حيث رؤية الهلال أو عدمه، ولا داعي أيها المسلمون لأن تتعبوا أنفسكم في البحث عن هلال شوال فالأمر حسم. لقد أعلن رسميا في المملكة العربية السعودية أن رمضان ينتهي يوم الأحد.. شوال يبدأ يوم الاثنين وطز فيكم وفي هلالكم وفي محاكمكم الشرعية وغير الشرعية.. بل إن الجنرال قرر أن تنتهي إجراءات الحج في مشارق الأرض ومغاربها قبل نهاية شهر رمضان، ولهذا السبب حدد اشوارزكوف متى ينتهي رمضان، لأن ذلك- ولأول مرة مرتبط بترتيبات الحج.. والحج يهم الجنرال اشوارزكوف لأن دخول مئات الآلاف من جميع أنحاء العالم الإسلامي لأماكن تقع تحت حمايته أمر في غاية الخطورة، فالحج هذا العام ليس كغيره من الأعوام إذ آن الحج هذا العام يأتي ومكة والمدينة تحت حماية القوات الأمريكية، ووفقا لما هو معروف لديكم فقد طلبت حكومة السعودية الحماية بتلك القوات عندما دخل العراق للكويت وربما كان سيتقدم إلى الأماكن المقدسة لتكون تابعة للعراق وتلك مسالة خطيرة للغاية ولربما زحف على حقول النفط الغربية.. ولهذا كان من حق حكومة السعودية طلب الحماية لكونها دولة مستقلة لها الحق في أن تقرر ما تشاء ومن مصلحة أمريكا الموافقة على هذا الطلب ووفق على طلبها ولولا القوات الأمريكية لربما كانت اليوم مكة والمدينة تتبع العراق بما لها وما عليها ولكن حماية القوات الأمريكية حال دون ذلك ولهذا لا لوم على الجنرال اشوارزكوف إذا حدد نهاية شهر رمضان وشوال ويوم الوقفة والنحر ورمي الجمرات، وأن يحدد ميعاد آخر يوم للتسجيل للحج وهو آخر رمضان.

ولذا لا يمكن ترك آخر رمضان للرؤية من عدمها، ذلك يتعارض مع أمن القوات المسؤولة عن حماية المملكة العربية السعودية فالجنرال كان مضطرا إلى تحديد يوم 14 /4 نهاية لرمضان.. و15 /4 بداية لشوال وهلم جرا، حتى يوم الوقفة بالتوقيت الإفرنجي لا غيره.. ويامر الجنرال اشوارزكوف حجاج بيت الله الحرام بأنه من المحرمات أيضا علاوة على الرفث والفسوق والجدال هناك قائمة إضافية من المحرمات يامر بها هذه المرة اشوارزكوف وليس الله وهي تحريم جلب الصور بما فيها الصور الشخصية عدا الصورة الملصقة في جواز السفر، وكذلك الكتب بما فيها كتب القرآن والحديث والفقه، كذلك ممنوع الدعاء إلا الذي قرره الجنرال اشوارزكوف بنفسه وتجدونه لدى كل مطوف بلا مناقشة لأن أى حرية في التعبير وعدم تحديد الدعاء قد يؤدى إلى الهتاف بعبارات معادية للقوات الأمريكية أو ربما حتى للجنرال نفسه أو لرئيسه لا سامح الله.. وهذا يقود إلى مظاهرات أو هيجان قد يؤدى إلى الإخلال بالأمن المسؤولة عنه القوات الأمريكية حيث مكة جزء لا يتجزأ من المملكة العربية السعودية والمسؤول عن حمايتها اشوارزكوف. ما هو الخطأ في تمديد شهر رمضان 32 يوما والفطر يوم 3 من شوال أو في قبول الإجراءات المتعلقة بالحج هذا العام وفقا للأوامر.. فمن هو المخطئ..؟ لاشك أن المخطئ هو غير الملتزم والمارق من الصف المنتظم، العاصي للأوامر.. لماذا ترفع رأسك إلى قلب السماء لترى القمر؟ كان يجب أن تقول غمى علينا.. وتكون بذلك قد ضربت عدة عصافير بحجر واحد فمن جهة وهي الأهم تكون أكدت السنة وتمسكت بها فقد غم عليك وأتممت رمضان 32 يوما.. ومن جهة أخرى حصل لك الأجر والثواب بصيامك يومين آخرين، ومن يعارضك أو يكفرك وأنت قادر على الرد عليهم لقوله(وأن تصوموا خير لكم).. وأنك من الراكعين عملا بقوله تعالى(واركعوا مع الراكعين). إن القرآن يستخدم على يد كل المسلمين للوصول إلى السلطة ويبرر الاستغلال والاغتيال والعمالة وحتى الانبطاح والانفتاح فانت مسلم ولك الحق في استغلال القرآن لأي غرض، هل أنت أكثر تقوى من الإخوان المسلمين والتكفير والهجرة والسلطان عبد الحميد وعبد المجيد والشيخ عبد الرحمن وعبد نورمان وعبد ماك ميلان..؟.

وعليه فإن يوم15/4/1991 إفرنجي هو يوم العيد والصلاة الساعة6.50 في ساحة الحرم المكي والساعة6.00 في الحرم النبوي، وعلى بقية المسلمين أن يراعوا فروق التوقيت دون مناقشة.

 

الجنرال ا شوارزكوف

مكة المحمية براً وجواً وبحراً

دعاء الجمعة الآخرة

بما أن الجمعة القادمة هي آخر جمعة في رمضان المبارك بغض النظر عن الفطر والصيام ومتى يكون.. ولذا فإن المسلمين مطالبون من جنوب الفليبين وشمال تايلاند وجزر ماليزيا عدا صرواح وحتى نيجيريا..وإلى ربع الكاميرون وثلاثة أخماس ملاوي وربع وثلاثة أرباع الربع من جنوب أفريقيا.. مطالبون بالدعاء يوم الجمعة الآخرة في رمضان على بكرة أبيهم وبالجيم خفافا وثقالا.. وإن الدعاء الذي سيأتي ذكره في هذا المقال/ والذي لم يكتشف إلا حديثا مع اكتشاف أشعة(الكوبالت)يغنى حافظه ومحفظه والداعي به عن علوم العصر الحديث وخاصة التطبيقية منها، وكم كنا مغفلين عندما نشرنا المدارس والمعاهد والكليات الجامعية، ومراكز التدريب المهني في كل مكان بما فيها المدارس الجاهزة والمتنقلة حتى أصبح لكل طفل كرسى إلحاحا منا لقهر الجهل والقضاء على الأمية التاريخية.. واستيعاب العلوم الحديثة لصنع التقدم ومواجهة تحديات الأعداء. كنا مغفلين لأننا لم نبذل نفس الجهد للبحث عن الكتب القديمة التى فيها السر المصرور من أهل الملل والنحل، وأهل المذاهب الذين ذهبوا مع الذاهبين، ابن تيمية.. وابن كثير.

وكنا على خطأ عندما أسسنا صناعة الحديد والصلب، وشيدنا المصانع الكيماوية والبتر وكيماوية، وأنفقنا عليها المليارات، ويجب إلغاء النهر الصناعي العظيم بليبيا والمرحلة الثانية من مركب الحديد والصلب الضخم.. لالغاء المرحلة الثانية لمركب رأس الأنوف التى تشمل إقامة ثلاثمائة مصنع لمشتقات النفط، وعلينا توفير الملايين لإعادة طباعة الكتب الصفراء.

لاشك أن المسلمين أقصد لاشك أن بنى يعرب التائهين بين المحيط والخليج قد أصيبوا بالخوف والرعب عندما تأكدوا من أن بنى إسرائيل قد امتلكوا زمام العلم الحديث وبتمويل أمريكي- عربي استطاعوا بهذا العلم العصري أن يطلقوا قمرا صناعيا يلتقط صورا حقيقية كل ثانية عما يريدون تصويره.. لقد انزعج الإسرائيليون عندما بدأت الصور ترسل تباعا من القمر اليهودي إلى تل أبيب والقدس خاصة بالنشاط العربي اليومي- انزعجوا لأن القمر في البداية صوٌر كل شئ في الوطن العربي فتزاحمت أمامهم صور الجمال في موريتانيا وصور الحمير في السودان مع صور الملوك ورؤساء العرب في مؤتمرات القمة.

لقد انزعجوا بالفعل من فرز الصور والمفاضلة بينها أيها أسوأ وأي منها يشكل خطرا على مستقبل بنى إسرائيل؟؟ وعليه ركزوا التصوير على أهداف منتقاة فقط وأمروه بعدم تصوير الحمير والجمال وما في حكمها، ولهذا ظهرت صور الرابطة وتاجوراء وترهونة وأبى كماش وقصر أحمد والسد العالي والنهر الصناعي العظيم ورأس الأنوف، ثم ظهرت صورة معيتيقة طفلة عمرها عشر سنوات تلعب أمام منزلها وصورة سناء وصورة عقبة بن نافع أسمر طويل القامة ملتحيا ومزملا بعمامة خضراء.. ثم صور القرضابية جالسة في العراء حولها رجال ونساء.. ومغطاة.. كذلك صور ناصر ينتظر مصر.. ومن المؤكد أن بنى إسرائيل قد صنعوا القنبلة الذرية والصواريخ بعيدة المدى التى ستحملها.. وأنهم يصنعون الطائرات الحربية وباشروا في بيعها لعدد من دول العالم.

هذه جبهة واحدة من جبهات التحدي الخطر للأمة العربية، والتي تحتاج لبرنامج ثوري شديد يحشد كل الجهود للعلم والعمل والتحدي وللوصول إلى درجة عالية للغاية من الاستعداد لدفع الثمن.. وتحمل التبعات، لإنقاذ أمة معرضة للخطر والإهانة. بيد أن الأتقياء من أبناء هذه الأمة الذين تلقوا دروسا في الفقه الإسلامي على يد علماء من أفغانستان والهند وبريطانيا من أمثال النبهاني.. والسيد قطب زادا الفارسي من أصل هندي وجنسيته مصرية، ومحمد أسد وحواء ويكن التركي الأصل وميرزا وبهاء الدين العجميين وجاك بيرك وجارودى والذين اعتقدوا اعتقادا جازما لا يتزعزع في هؤلاء الدهاة خاصة أن سيد قطب زادا والنبهاني وبلاك دوج الذي أصبح اسمه(محمد) عندما دخل الإسلام- من المبشرين بالجنة كما جاء في أقوال زينب وحسب اعترافاتهم أنفسهم في التحقيق والتكذيب..!! المهم أن أبناء هذه الأمة من تابعي حزب الإخوان المسلمين.. وحزب التحرير الإسلامي.. والتبليغ والتكفير.. والتهجير.. والجهاد ضد المسلمين.. والدعوة لأمريكا والدعاية لها والدفاع عنها. قد لفتوا انتباه الشباب لهذا السر الخطير.. وسهروا الليالي الطوال في البحث العلمي حيث نقبوا بطون الكتب الصفراء وأكدوا لنا أن الدعاء في الجمعة الآخرة من رمضان كفيل بإفشال كافة المخططات الجهنمية المعادية وإبطال مفعول علوم العصر.. وكل تقنياته ولا لزوم إذا اعتقدنا في ما يقوله ائتلاف أحزاب الله.. لا لزوم لتعليم أولادكم في المدارس والمعاهد التقنية العليا.. ولا في جامعة النجم الساطع التقنية.. بل اتركوهم على الأرصفة يبيعون الدخان في الهواء الطلق.. ويبيعون العلك للكبار.. المهم حفظ الدعاء الذي سيان نصه في هذا المقال.. وبشرط أن تشترك في اللهج به ألسنة كل المسلمين في المناطق التى ذكرت عدا المستثناة.

أما الدعاء فهو الآتي:

فهم لا يبصرون.. فهم لا يبصرون ألف مرة في الدقيقة يوم الجمعة الآخرة من رمضان مع كلمة آمين. هذا الدعاء صحيح مجرب فهو قادر على جعل اليهود لا يبصرون الأهداف الحيوية للعرب بما فيها مصنع الرابطة للأدوية بل لا يبصرون العرب أنفسهم.

إن هذا الدعاء يعمى القمر الصناعي الإسرائيلي بكل تأكيد.. فقد بلغ أحد الإخوان المسلمين من العاملين في مصنع الرابطة بلغ الأمريكيين سرا عن سير العمل في المصنع.. مما جعل أمريكا تحشد أساطيلها في مواجهة ليبيا مرة أخرى.. ولكنه بهذا الدعاء ألف مرة في الدقيقة مع كلمة آمين أمام المحققين الأمر الذي جعل أمريكا غير قادرة على رؤية المصنع ما بالك بالقمر الصناعي الإسرائيلي الذي يلف حول ليبيا والجزائر والعراق فقط.. وحقا لم تضرب أمريكا المصنع برغم تلك الحشود الهائلة ولا الإسرائيليون وذلك حتى كتابة هذا المقال. أما التعويذة الأخرى فهي مجرد قراءة كتاب في ظلال القرآن، وليس القرآن نفسه، وحسب شرح الإخوان المسلمين هو أن القرآن كتاب واحد فقط أما ظلال القرآن فهي عشرة.

إن هذه الكتب كما هو واضح لكم لا تترك لقارئها وقتا زائدا لقراءة أى علوم أو مناهج أخرى فارغة كالكيمياء والرياضيات والفضاء والأعماق. ولكن بشرط الاعتكاف في المساجد أو المنازل. وتصوروا أيها المؤمنون أفادكم الله.. إذا اعتكف كل المسلمين من جاكرتا إلى مراكش عدا ما ذكر أعلاه كم تكون ضخامة الدعاء وقوته التى لا يمكن أن تقهر خاصة أن الدعاء لا تكشفه أجهزة الأعداء فهو لا يظهر على الشاشة خلافا للطائرات والسفن والصواريخ.

بادروا بتعليم أولادكم كتب الإخوان وحزب التحرير والتكفير.. واطبعوها وأعيدوا طباعتها واعتكفوا إلى يوم القيامة في المساجد والمنازل لدراسة هذه الكتب.. وهي واضحة من عناوينها المفيدة.. حكم الدين في اللحية والتدخين!!! وفقه أهل السنة في استعمال الشامبو والحنة!! والكناش في دخول الجنة بلاش! ثم كتب ابن تيمية التى تشرح لكم حكمة الأكل بثلاث (صوابع..) والأكل وأنت متكئ.. وحكمة الأكل في قصة العود.. أو قصعة الحديد.. ولكن لا تنسوا الدعاء الذي سبق ذكره وهو خاص بالجانب العسكري في الفقه الإسلامي الحزبي الإخواني الديمقراطى، ويتعلق بالاستراتيجية المضادة مع الدعاء الخاص بالاقتصاد فهو بسيط ويكفي أن تردده مائة مرة فقط في الثانية،

فهو نافع مجرب ضد ارتفاع الأسعار بلا مبرر.. ولمقاومة الاستغلال دون نظرية ثورية.. وحتى دون حركة ثورية وهو: اللهم ارحم الموظفين من أصحاب الدكاكين، وارحم كبار التجار من صغار الثوار، وإذا اشتعلت النار في وضح النهار فإن المسؤول التجار والثوار ونحن علينا الاستغفار لرافع الأسعار والمساوين ا لدينار بواحد دولار. أما الذي يريد توحيد الأمة العربية لكي تقوى وتتقدم وتنتصر على العدو فعليه أن يردد وراء الإمام في نفس الجمعة المذكورة (اللهم إن ضعفنا لا يخفي عليك. وأمرنا بين يديك لانك تعلم أننا لا نملك خاتم شبيك لبيك. وتعلم أن اليهود والنصارى صدوا بصواريخهم وأقمارهم إليك.. ونحن لا نجاريهم في كفرهم هذا بغزو الفضاء ونتوسل إليك).

أيها المؤمنون هذا ما تدعوكم إليه أحزاب الإسلام المختلفة المتحدة.. من حزب الإخوان إلى حزب التحرير وحركة الهجرة والتكفير.. وحزب الدعوة والدعاية . وإنكم لن تستطيعوا التقدم إلى الأمام.. ولا دخولي العصر.. ولا الخروج من التخلف.. ولا حتى تحرير فلسطين.. أو على الأقل تدمير قواعد العدو الموجهة لكل عاصمة عربية.. لا يمكن لكم تحقيق شئ من هذا دون الرجوع إلى كتبكم الصفراء.. والعودة ألفي سنة إلى الوراء لنعرف من قتل عثمان وضرورة تقديمه للعدالة، وكذلك من قتل الحسين وهل على أحق بالخلافة أم معاوية وما هي مؤهلات كل من يزيد والحسين..؟ ولابد من التأكد من عدد الذين هجموا على عثمان وكم الساعة بالضبط عندما وقعت تلك الجريمة البشعة وبالرجوع إلى كتب تيمية وابن كثير ويكن وحواء وسيد قطب زادا واللورى والمودودى سنتأكد من معرفة هذه الأساسيات الأصولية التى لابد منها للتقدم، وحل المشكلات الاقتصادية والإدارية وأسعار النفط المتدنية نتيجة اكتشاف النصارى لمصادر أخرى للطاقة البديلة.. وللعمل الدفاعي حسب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ضد حرب النجوم وحرب الأعصاب.. والحرب الإلكترونية!!

كيف نذهب إلى الإمام.. ونحن لم نعرف بعد من هو أحق بخلافة أبيه الهادى أم المهدى.. الأمين أم المأمون.. وهل ناقة علي كرم الله وجهه كانت شقراء أم حجلاء..!! وهل قميص عثمان مصنوع من القطن أم من النايلون!!؟

نهل هذه المعارف الأساسية تجدونها في الكتب الرجعية.. أقصد السلفية.. وهي ما تدعوكم الأحزاب الإسلامية العصرية للانكباب على دراستها حتى تضطروا إلى قراءتها بالنظارات الطبية.. قد يهزأ بعضكم بهذا الاتجاه.. وذلك من باب الكفر والإلحاد ولكن أى عاقل يعيش على مشارف القرن الواحد والعشرين لا تقلقه هذه القضايا الخطيرة، كيف ندخل هذا القرن الجديد ونحن لا نفهم استحباب الأكل بخمس أصابع، وحكمة الأكل بثلاث أصابع فقط!! وكراهة لحسها قبل لعقها.. واستحباب لعق القصعة وأخذ اللقمة الساقطة.. راجعوا كتاب الصالحين للإمام زكريايحي 297 الباب 109، وهل اللحية تصبغ بالحنة أم بالشامبو!! وهل يجوز أن يصنع حجاب المسلمة بالماكينة أم باليد.. وإذا صنعه كافر أو هندي أو بولندي فهل يجوز للمسلمة أن تتحجب به!!

اللهم اهد المسلمين إلى طريق الحق و جاهدهم في بعضهم بعضا، واجعلهم يكفر بعضهم بعضا، ويهجر بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا.. حتى يتحالفوا مع أهل الكتاب إنك مجيب فوحدنا تحت راية واشنطن وتل أبيب، واجعلهم هم وأولادهم ونساءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين مع ضمان توزيع هذه الغنائم توزيعا عادلا لا يسار.. ولا يمين.. آمين.

وانتهت الجمعة دون دعاء

 

للأسف لم يتفق المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على أداء دعاء الجمعة الآخرة، ولو اتفقوا لزلزل دعاؤهم بكل تأكيد الكيان الصهيوني والحلف الأطلسي، وربما أسقط حتى القمر الصناعي(الإسرائيلي) ولكنهم للأسف اختلفوا، فحزب التحرير الإسلامي اشترط لكي يشترك أذنابه في دعاء الله يوم هذه الجمعة أن يكون رئيس الحزب خليفة المسلمين، وأن يدعى له من فوق منابر المساجد، وأن يقال في كل مسجد في العالم الإسلامي: اللهم انصر خليفة المسلمين رئيس حزب التحرير الإسلامي، وبارك في ذريته وأزواجه واجعلهم خلفاء من بعده.. وإذا توعك وجب فرضا أن يدعى له بالشفاء من وعكته في جميع مساجد العالم الإسلامى، وأن يكون معلوما لديكم أن الخليفة يحق له استباحة ما هو محرم عليكم.. وأنكم ونساءكم مما ملكت يمينه.. واشترط أن يعتبر أعضاء المكتب السياسي للحزب الذين هم ثلاثة فلسطيني واثنان أردنيان من أصل تركي وكردى- من آل البيت- وإذا ذكروا يجب عليكم أن تقولوا : اللهم ارض عنهم.. وكرم الله وجوه أعضاء المكتب السياسي لحزب التحرير الإسلامي وأن تبشروهم بالجنة مهما كان.... واشترط لكي يشترك أتباعه وأتباعهم وأذناب أذنابهم بالدعاء معنا في الجمعة الآخرة أن يحل حزب الإخوان المسلمين. وأن يفك ارتباطه بالمخابرات الألمانية الغربية نتيجة للأزمة السياسية القائمة في شهر رمضان المبارك بين بريطانيا العظمى وألمانيا الغربية غير العظمى بشأن تحديث الصواريخ النووية. وعندما سئل عن علاقة دعاء المسلمين يوم الجمعة الآخرة في رمضان ببريطانيا وألمانيا.. قال لنا: طبيعة الصراع تقتفي هذا، وإن حزب التحرير الإسلامي لا يمكنه مخالفة دين الله ولا ينكث عهده.. ولا ينقض غزله فهو ملتزم التزاما تاريخيا ودينيا مع أهل الكتاب المخابرات البريطانية من أيام احتلال فلسطين وإلى يوم الدين.. وإن الحزب يدين في تأسيسه للحاج الجنرال جلوب.. والحاج لورنس رحمهما الله وطيب ثراهما في ضواحي بورمث وبرفنجتن في جنوب بريطانيا. وعندما سمع تبع الإخوان المسلمين هذا الشرط قاموا بحرق كتب النبهاني، وأعلنوا أنه يتبع الموساد من عام1936 وأن أتباعه عملاء.. وأن الدعم المالي يأتيهم من الموساد كل ستة أشهر عبر الأردن. وأن الحزب تكون من فلسطينيين عملاء للإنجليز منذ أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، وشكلوا هذا الحزب ليحول بين المسلمين وتحرير فلسطين.. وأن هدف رئيس الحزب هو أن يحقق حلمه وهاجسه بان يكون خليفة للمسلمين ولو لمدة شهر واحد.. وأن يدعى له على جميع المنابر. ورد حزب التحرير على حزب الإخوان المسلمين الصاع صاعين.. والكيل كيلين.. واتهمهم بتحريف القرآن الكريم في تفسير سيد قطب زادا الهندي الأصل في ظلال القرآن.. والغرض من هذا التحريف هو إبطال أحقية عبد الناصر في الرئاسة.. وأحقية حسن البنا حتى وإن كان ميتا، لأن البنا يحفظ القرآن في صغره.. حتى وإن نسيه في كبره . أما عبد الناصر فلا يحفظه.. والغرض من تأليف هذه الأجزاء في تفسير القرآن المسماة في ظلال القرآن هو صراع المصريين فيما بينهم في الأربعينات وبداية الخمسينات على السلطة، ولا علاقة له بالقرآن أو الدين أو الله أو ليبيا، ولكن أقحم الدين وفسر القرآن عمدا تفسيرا مغلوطا لإثبات حق فريق من المصريين في الحكم ضد فريق آخر. وقام حزب التحرير الإسلامي بإحراق كتب المودودى وأعلن أنها مهزلة.. كيف يستطيع أعجمي أن يعلمنا نحن العرب ديننا؟.. ونحن الذين أدخلناه الإسلام.. ونحن أئمته ومعلموه. وقالوا: إنه من السخف أن يتتلمذ عربي على أعجمي في دين محمد النبى العربي وبلسانه العربي المبين، واشترطوا هم أيضا على حزب الإخوان المسلمين فك ارتباطه بالمخابرات الأمريكية وخاصة الكولونيل جون بالمر.. ولكنهم تاسفوا على اضطرارهم إلى فضح هذه الأسرار ولكن قالوا : السن بالسن والعين بالعين والبادئ أظلم. وشارك في الجدل حول هذه المسائل الخطيرة التى ستؤدى إلى تحقيق المعجزات مثل تحلية مياه البحر.. واستغلاله في الزراعة.. وتحويل الطاقة الشمسية إلى وقود.. وربما تحويل الحجارة إلى صوف شاركت حركات أخرى مثل التكفير والهجرة من وإلى فلسطين.. والجهاد ضد سكان أجد ابيا والدعوة لتدمير المجمع الصناعي في رأس الأنوف.. وكفرت بدورها حزب الإخوان المسلمين.. وحزب التحرير الإسلامي ووصفتهما بالرجعية والعمالة والفسق والنفاق.. وأن أتباع هذين الحزبين لا يستطيعون قبول التحدي مع هذه الجماعات الجديدة مثل عدم قدرتهم على كسر السن الضحاكة وحمل25 كجم من الرمل والسير بها أربعين ك.م كل أسبوع.. وأن يصوموا خمسة وأربعين يوما بدل ثلاثين وأن يتحملوا العيش ستة أشهر دون اغتسال.. ودون حلاقة.. ودون قص أظفار.. ودون معجون أسنان وأن يتزوجوا بلا عقد قران.. وذلك اقتداء (بمير زادا) عليه السلام. وعندما سمع حزب الإخوان المسلمين وحزب التحرير بتدخل فذه الجماعات المسلمة الجديدة.. أفتوا معا وأيدوا هذه الفتاوى ببصمات إبهام الرجل اليمنى بمجلس رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة..وفروع تلك الرابطة المحدودة في واشنطن (رحمه الله).. وفي القدس الشريف.. ومعهد شملان العتيق، وذلك لإنهاء الجدل العقيم حول الدين الذي ينبني ألا يتعمق فيه.. بل يجب استغلاله فقط لحشد التبع المغفلين.. وللتغطية به أمام الجماهير، وهددوا هذه الجماعات بفضح حقيقتها كونها وافدة على الوطن العربي من بلاد الأعاجم.. إنها موجهة ضد الأمة العربية باسم الدين لتدمير القومية العربية تسهيلا لسيطرة قومية(إسرائيلية) أو فارسية في المنطقة.. ومعاداة الاتجاه التقدمي الاجتماعي الجذري باتجاه إسلامي وهمي حسب الاتفاق السري مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والموساد، وبطبيعة الحال استبدال الاتجاه الإسلامي بالدين الإسلامي.. وأن منبع التكفير والهجرة من باكستان.. والدعوة والجهاد من أفغانستان وإيران والهند.. وأن تلك المناطق هي الوكر ا لقديم ا لتقليدي لمد ارس الحشاشين وازنادقة والمخابرات الغربية المعادية للإسلام وللأمة العربية.

وإن هذه الحركات هي امتداد للقديانية والأحمدية والبهائية التي ادعى مؤسسوها النبوة وأخيرا تخلوا عن دين محمد واستبدلوا به البهائية والأحمدية وما إليها، والان ستحل محل الإسلام دعوات التكفير والهجرة والدعوة والجهاد وما إليها.

وهكذا فقدنا مشاركة هذه الأحزاب وأتباعها وأذنابها في الدعاء في الجمعة الآخرة من رمضان نتيجة خلافات لن يتم الاتفاق حولها فيما بينها إلى يوم القيامة.. ولكن لسوء الحظ لم يقف الأمر عند هذا الحد بل قال لنا مسلمو باكستان: نحن نرفض المشاركة لأن الأرض السليبة بالنسبة لباكستان كدولة إسلامية(هي كشمير).. وأن العدو اللدود هو الهند وليس ما يسمى(بإسرائيل). أما مسلمو الهند فلم يوافقوا بسبب عدم اتفاقهم معنا حول تحديد العدو.. وغاية الجهاد . فالعدو المباشر لمسلمي إندونيسيا هو ماليزيا الدولة المسلمة والمعتدية على حدود إندونيسيا المسلمة كذلك.. أما العدو التقليدي فهو اليابان، وأن الأرض السليبة لمسلمي الفليبين ليست فلسطين بل(مانديناوا). وتل أبيب لا تعنى عندهم شيئا سيئا بل(مانيلا). والأدهي من ذلك وجدنا سفارات(إسرائيلية) ومصالح متبادلة بين المسلمين والعدو الصهيوني. واتضح لنا أن العدو(الإسرائيلي) هو عدو الأمة العربية فقط.. وأن أمريكا متحالفة مع دول إسلامية لمصلحة(الإسرائيليين) و أننا واهمون للغاية.. فالإسلام لا يشكل وحدة سياسية.. ولا اقتصادية.. ولا عسكرية.. وجدنا تركيا الأمة المسلمة.. التي حكمت العالم الإسلامي ستمائة سنة باسم الدين عضوا في حلف الأطلسي الذي تقوده أمريكا. وأن علاقتها مع"الإسرائيليين" حسنة جدا وأن الدول الإسلامية الإفريقية تستعين بالنصارى ضدنا.. وتربض فوق أرضها الإسلامية قواعد الدول المسيحية. وأنهم راضون.. يكفي دليلا على ذلك أن جزر القمر المسلمة تنازلت عن إحدى جزرها لفرنسا كرد جميل لفرنسا التي أرجعت الحاج أحمد عبد الله للسلطة.. وصوت سكان جزيرة (مايوت) المسلمون للانضمام إلى فرنسا المسيحية. ولكن كل هذه النتائج المؤلمة أكدت أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لا يمكن أن يجاهدوا معنا ضد عدو مشترك، لأن عدو العرب صديق المسلمين من غير العرب والعكس.. وبالتالي لا أمل في وحدة سياسية أو عسكرية إلى يوم القيامة.. وأن المنافع الاقتصادية لا وحدة بيننا فيها على الإطلاق، فتركيا مرتبطة مع الإسرائيليين في السياحة والتجارة ومع ألمانيا الغربية في الأيدي العاملة.. ومرتبطة مع أوروبا الغربية لكونها عضوا في السوق الأوروبية المشتركة برغم أنف الإسلام عليه السلام ومسلمي ليبيريا وملاوي تبع أمريكا. ولم يستجب لنا إلا ثوريون من جميع أنحاء العالم لكنهم ليسوا مسلمين.. وقالوا: نشهد أن العرب مظلومون.. وأنهم مهانون من طرف الصهيونية والإمبريالية، وقم الوا: نشهد أن فلسطين عربية وأنها احتلت عام 1948 م. ولكننا رفضنا من جهتنا مشاركتهم لأنهم ليسوا مسلمين.. وذات الوقت تأكدنا من أن المسلمين ليسوا عربا.. وأن العرب مسلمون.

وهكذا فاتت الجمعة الآخرة دون دعاء لأننا وجدنا لكل أمة دينا.. ولكل أمة نبيا.. ولكل أمة مستقبلا ومصيرا.. ولها عدوها ومصالحها الخاصة. ما عدا ذلك دجل وسخف وضحك على الذقون، وعلى الأمة العربية أن تتذوق مرارة الإهانة والتطاول، وتواجه الإبادة من عدوها وحدها فقط والذي هو في نفس الوقت حليف وصديق لأمم إسلامية غير عربية، وأن محاولة التوفيق بين المتناقضات ضرب من المحال.. ولكن أتباع وأذناب حزب التحرير الإسلامي وحزب الإخوان المسلمين.. والتكفير والتهجير والدعوة والجهاد ضد العباد الآمنين المؤمنين تركناهم ينقبون مثل الدجاج في كتب ابن تيمية.. والفتوى السندسية حسب آخر طبعة للمخابرات الأمريكية. قالوا: سنشارك في الجهاد ضد العدو بمجرد أن نفرغ من قراءة الإمام الغزالي لنعرف هل الموت طائر أم دابة!!؟.. وإذا كان دابة كما قال الإمام الغزالي فهي أكبر من الجحش وأصغر من الحصان!!؟ وهل العنب الذي كان يسقط على (خبيب بن عدى) وهو أسير عند المشركين في مكة كان من الزهرة أم عطارد؟ لأن مكة لا عنب بها ولكن ابن تيمية شيخ الإسلام القديم يؤكد أن العنب كان يتساقط يوميا على خبيب.. وأن (أم أيمن) كادت تموت عطشا بين مكة والمدينة وهي صائمة فنزل عليها حساء من شربة بالمعدنوس.. ودلو ماء معدن ماركة أفيان.. ولم تعطش طيلة عمرها بعد أن شربت من ماء أفيان.. وأن خالد بن الوليد حاصر حصنا منيعا للروم وطلب منهم التسليم.. فقالوا له: لا نسلم حتى تشرب السم. فشرب قدحين من السم(السقوطرى) القاتل.. ولم يوجعه حتى مصران واحد من مصارينه.

هذا ما كتبه شيخ الإسلام (ابن تيمية) في كتابه المشهور الذي يعتبر دستور حركة التكفير والهجرة والدعوة والجهاد والإخوان والتحرير.

ونحن ننتظر متى يتأكد أصحاب هذه الأحزاب الإسلامية من حقيقة الموت، هل هو طائرة أم دابة؟ وكيف نزل العنب على أسير في مكة.. ومكة ليس بها عنب.. وكيف نزلت الشربة وماء أفيان على أم أيمن؟.. ولأن هذه الأبحاث العلمية ستؤدى إلى تغيير العالم وثقافته وبديهياته ومسلماته العلمية الفارغة المبنية على قوانين الجاذبية والطفو.. وحساب المثلثات.. والهندسة الفراغية.. ونظرية الطرد المركزي.. واللوغاريتمات..

فنحن في انتظار نتائج الأبحاث العلمية للأحزاب الإسلامية المستوردة من المجوسية والباطنية.. وعلينا أن نساعدهم بإعادة طباعة كتب ابن تيمية وابن كثير والمودودى ذات العناوين الباهرة مثل(رأى الدين في اللقاء بين الزوجين..بعد رأيه في اللحية والتدخين و(أكثر من قول في تعدد زوجات الرسول)( والغنة في نكاح أهل الجنة) و(أكل القديد حسب طريقة خالد ابن الوليد)لأن المهم هو أن نعرف كيف كان خالد ابن الوليد ياكل القديد.. وليس المهم كيف انتصر على الروم وأساليبه في الحرب.. بل المفيد هو أسلوبه في أكل القديد.. وكتاب" المنابع في حكمة الأكل بثلاثة أصابع" لابن تيمية.

أيها المؤمنون لا تتحسروا ففي الجمعة الآخرة من رمضان القادم أو الذي بعده.. أو الذي بعد الذي بعده قد نصل إلى معرفة حقائق علمية مذهلة تتعلق بهذه القضايا.

المسحراتي ظهرا

كلنا نعرف المسحراتي.. ونحبه.. حتى الأطفال كانوا يحبون شهر رمضان، وينتظرونه بفارغ الصبر من أجل المسحراتي وصوته الموقظ للنيام.. وطبله البسيط جميل الإيقاعات الرتيبة المصاحبة لذلك الصوت المألوف كل عام، وفي كل ليلة من ليالي رمضان الكريم.. وكلنا يسمع تلك الدعوات الحسنة المحبوبة وننصت إلى مفرداتها الطيبة.. ويرددها الأطفال مدة طويلة.. ونستخدمها في المناسبات التي تنطبق عليها فنقول(اصحي يا نايم) كلما أردنا حث أحد على النهوض واليقظة. كافأ الله المسحراتي خيرا وجزاه أجرا لجهده المتواضع ونداء اته المتكررة في آخر الليالي المظلمة لإيقاظنا كي نتناول سحورنا، ونستعد لصيام يوم قد يكون طويلا. إن المسحراتي شخصية فريدة نادرة ليس مثله كثيرا، بل إن المسحراتي إنسان منقطع النظير إلى أبعد حد، وله قدرات لا تتوفر في غالبية الناس.. ومسؤولية المسحراتي مسؤولية أدبية تتعلق بالضمير والسريرة والإلزام الذاتي.. وهو حريص على إيقاظ كل نائم، ويتجشم المتاعب ويقطع المسافات مشيا على قدميه، ويتخلل كل الأزقة والخلوات ليوقظ أصحابها.. وكم من عثرة تصادفه.. وكم من كبوة كباها نتيجة ذلك.. ولم ينقلب على عقبيه.. ولم يتعكر مزاجه.. بل يمشى في سبيله مسبحا باسمه تعالى مواصلا مسيره حتى يسمع صوته الجميع .

العظيم أن المسحراتي لا يوقظه أحد.. فهو الذي يوقظ النيام، فهو ليس مثل عامة الناس الذين يحتاجون إلى طبل ودعاء ودعوات وتكرار حتى يصحوا.. نحن كلنا نستغرب في شخص المسحراتي.. حقا من أيقظه حتى يوقظنا.. ألا ينام المسحراتي..؟ طبعا ينام..! المسحراتي بشر مثلنا يتعب، وينام، ويمرض أيضا، أو على الأقل يحتاج إلى النوم والراحة.. والعجيب أن يقظة المسحراتي تكون في وقت النوم، ويقوم بمهمته المقدسة تلك في أوقات الاستغراق في النوم.. وفي وقت الارتخاء والركون للراحة، ويمشى في الظلام أى في السحر في ذيول الليل البهيم يتعثر ويستمر.. ويكبو وينهض. وربما لهذا السبب يكره بعضنا المسحراتي كما يكره مؤذن الفجر.. إلا أن الأذان يتكرر عدة مرات في اليوم فتعودنا عليه.. وليس بنادر فهو يؤذن طيلة اليوم من الصبح إلى العشاء.. المؤذن أصبح يعلن الأذان من مكانه.. بل أصبح المؤذن يؤذن وهو متمدد على الفراش بواسطة مكبر صوت، فهو لا يزعج الذين يكرهونه لأنه لا يتحرك ولا يمر أمام أبوابهم، ولا يتوقف أمامها منبها كما يفعل المسحراتي.. ثم إن الأذان يتكون من عبارات محفوظة ومحددة لا إبداع ولا جديد فيها. بينما المسحراتي يتحرك ويبدع.. يدق الطبل ويدعو.. ويسبح ويسبح.. له أن يقول كل ما من شأنه إيقاظ النيام.. وله أن يكرر النداء والدعاء، ولكن باسلوب طيب يحبه حتى الأطفال، ويحاولون حفظ تلك الدعوات لحلاوتها.. ويرددونها حتى ولو لم يفهموا معناها بعد. صوت المسحراتي ساحر كالسحر وكالسحر فهو لا يستعين بمكبرات الصوت المزعجة المنفرة الصاخبة الصامة كتلك التى يستخدمها المؤذنون في مالطا.

على أي حال فالمسحراتي نحبه أو نكرهه.. وحتى الذين يكرهونه لأنه يحرمهم من نوم الهزيع الأخير من الليل.. ويحثهم على الاستعداد ليوم الغد.. يوم الصوم يذكرونه بالخير بعد فوات الأوان. هذا عن المسحراتي في السحر.. ولكن ماذا عن المسحراتي ظهرا!!؟.

 

حول قصتي : (الموت) و(الفرار الى جهنم) قراءة أولى

بقلم الدكتور : أحمد ابراهيم الفقيه

القائد معمر القذافي حالم كبير، ولا شك أن حلمه هو الذي قاده إلى إبداع النظرية الجماهيرية، التي أصبحت واقعا يعيشه و يمارسه ملايين الناس.

واذا كان القائد قد استخدم حسه العملي، ووعيه التاريخي، وجملة المعارف والخبرات التي اكتسبها، من أجل تحقيق هذا الحلم، فما الذي يمكن أن يضيفه مفكر له هذه التجربة إلى فن القصة الذي يعتمد أول ما يعتمد على الخيال؟ لقد مر وقت طويل قبل أن أعرف أن هاتين القصتين هما من تأليف قائد الثورة. كنت قد قرأتهما، ووقفت ذا هلا أمام هذا الإبداع الجديد الذي يمتلئ بشحنات انفعالية غاضبة، وهذه الصياغة المتميزة التي تجعل من الغضب طاقة هائلة قادرة على تفجير اللغة، لإعادة ترتيب الواقع، وتوظيف"التقنية" الفنية توظيفا بارعا من أجل الوصول إلى معالجة قصصية تشحن الوجدان، و تعبئ المشاعر، وتفيء المناطق الغامضة في النفس البشرية. من أين لموهبة جديدة في كتابة القصة أن تحقق منذ البداية هذا المستوى الرفيع في الأداء و(التقنية)؟

ولم تنته حيرتي إلا بعد أن عرفت أن كاتب هاتين القصتين ليس إلا قائد الثورة نفسه، فهو قبل أن يكون مفكرا وقائدا ورجل ثورة، إنما هو كاتب بارع، ومبدع له القدرة على تطويع ملكاته التعبيرية، والاستفادة من الأشكال الإبداعية التي تستجيب للأفكار والانفعالات والتأملات التي يريد تقديمها للناس عن طريق هذه الوسائط الأدبية. إن ميدان الكتابة الإبداعية الذي يستلهم أفكاره ونماذجه من تركيبة قوامها الواقع والتاريخ والخيال، سيكون أكثر ثراء عندما يجد أن واحدا من صانعي التاريخ، قد اختار هذا الشكل الأدبي، وهو القصة القصيرة، ليكون وسيلته لمخاطبة القراء.

وأول ما نلاحظه ونحن نقرأ هذا العطاء الفني، أن القائد معمر القذافي عندما جاء يكتب القصة، لم يكتبها مستخدما القوالب القديمة، ولم يعتمد الشكل التقليدي المتوارث، الذي يطالب بان يكون للقصة حدث مركزي رئيسي، و أن يكون لها بداية ووسط ونهاية، بكل ما يرافق تلك الطريقة التقليدية من أسلوب تقريري، وتتابع تراتبي منطقي للأحداث، واهتمام بالوصف الخارجي. لقد اختار القائد معمر القذافي أن يكتب قصة تنتمي إلى قصة الحداثة، وأن يستخدم"تقنية" فنية متطورة، وأن يستفيد من آخر إنجازات التعبير القصصى، وبمثل ما هو قائد ثوري يمتلئ بهاجس تحطيم القوالب القديمة، وتجاوز الأطروحات التقليدية في الفكر والممارسة، فهو أيضا كاتب مسكون بهاجس الابتكار والتجديد، والبحث عن بدائل جديدة للصياغات الفنية العتيقة. ولذلك فقد جاء يكتب قصة قصيرة تعبر عن هذا التوق الدائم الى التجديد، قصة تطمح في أن تكون وعاء يفيض بأعمق ما في الشعور من وميض ونبض وضؤ وظل، وتسعى إلى طرح أكثر الأسئلة اتصالا بجوهر الوجود الإنسان، تستخدم اللغة استخداما حديثا عامرا بالتوتر والتحفز، تعتني بتقديم العبارة الشاعرية، والجملة القصيرة، وتهتم بتصوير العالم الداخلي للإنسان. قصة لا تشغلها الأحداث والوقائع بقدر ما تشغلها الإيحاءات والرموز والدلالات. لا تهتم بنقل الإيقاع الخارجي للحياة، بقدر ما تهتم بنقل الإيقاع الداخلي من خلال التداعيات، والحدس، وتيار الشعور، والاستبطان المتواصل لانفعالات بطل القصة، ورصد أدق الخلجات وأكثرها التصاقا بوجدانه، دون أن يهمل الكاتب التفاعل الخلاق مع الواقع الحي، فيغمس قلمه في لحمه ودمه، ويقيم بناءه من الخامات والمواد الأولية التي يستمدها من هذا الواقع.

إن الإضافة التي يقدمها القائد معمر القذافي لفن القصة، إضافة كبيرة وخطيرة، لأنه ياتي إلى ميدان القصة محملا بتراثه النضالي، ورؤيته الإنسانية كواحد من أبطال التاريخ، ورصيده الكبير من التجارب والخبرات كقائد أممي . ياتي إلى هذا الميدان، ليكتب قصة متميزة، لا تسعى لإعادة إنتاج الواقع، أو محاكاته وتقليده، بقدر ما تسعى إلى تقديم واقع جديد، يضيف إلى عناصر الواقع تلك الحياة السرية التي تمور خلف المظاهر والواجهات، وذلك النبض الداخلي الذي لا يمكن رصده إلا بعدسة الفن العظيم.

نلتقي في قصة"الفرار إلى جهنم" باولى شحنات الغضب، هذا الغضب الذي يتفجر فنا ويحول الواقع إلى شظايا، ثم يعيد تركيبه و توليفة في سبيكة فنية، نكتشف من خلالها أن الفرار إلى جهنم، قد أصبح هو الطريق الوحيد إلى الخلاص، حيث نقف وجها لوجه أمام نقاء هذا البدوي الذي جاء من الصحراء، وهو يحمل فوق ظهره وعدا للآخرين بالحرية والانعتاق، بحمل بين يديه شمسا جديدة لهؤلاء الذين تعودوا الحياة في الأركان الضيقة المعتمة. ولكن الالتحام بالجموع، وحالة الاشتباك مع البشر، حتى لو كان الهدف هو تغيير واقعهم باتجاه الأفضل والأجمل، يعنى أعباء ومسؤوليات ثقيلة، ولعله يعنى أيضا درجة من الإحباط والإحساس بالخذلان، لأن الشمس التي جاء بها قد يلقى أناسا لا يحبونها. إن الشمس قد تعشي بعض الأبصار التي لا تعيش إلا في الظلام، وهي أيضا تكشف أناسا آخرين لا يستطيعون ممارسة حياتهم في وضح النهار. ولذلك تتحول القصة في جزء منها إلى هجائية لنوع من السلوك نراه موجودا في الحياة، حيث تبدو جهنم أكثر يسرا، والحياة بها أكثر راحة لمن يريد الهروب من وجوه هؤلاء البشر الذين تحولوا إلى ما يشبه كائنات الغابة. ولعلها بهذه النتيجة تكون قصة سوداوية متشائمة إذا أخذناها بما يبدو في الظاهر، ولكننا سبق أن أسلفنا القول، بان الظاهر يخفي تحته جوهرالا بد أن نتعب أنفسنا بالاهتداء إليه، فهي قصة تقرأ باكثر من مستوى، ولعل المستوى الثاني للقراءة هو الذي يقودنا إلى معرفة الحياة الداخلية، والايقاع الباطني، والذبذبات الدقيقة التي تسرى داخل وخلف السطور المكتوبة، وهذا الجوهر سوف يتيح لنا أن نرى القصة في ضوء جديد، فهي ليست تشاؤمية ولا عدمية كما توهمنا، وجهنم التي يقصدها الكاتب ليست جهنم العقاب الأبدي في الآخرة، إنها جهنم أخرى، أكثر انسانية وألفة، وإلا فكيف تأوي اليها الطيور، وتالفها الحيوانات المستانسة، إن لم تكن كذلك؟ لقد بدأ الراوي الذي يسرد القصة بالكشف عن هويته البدوية، ولا بد أن نذهب للبحث عن مرجعية النص في تلك البوادي، فعنصر الإحالة جزء أساسي من تكوين هذه القصة، والإشارات التي أوردها الكاتب عن طبيعة المكان الذي أسماه جهنم، ستقودنا بيسر وسهولة إلى البادية، وإلى بادية سرت بالذات، فالذين يعرفونها يعرفون أن هناك منطقة بين شعابها أطلقت عليها الذاكرة الشعبية اسم جهنم، ربما بسبب القيظ الشديد، وعدائية أرضها القاحلة، ولكن يد الثورة التي قادها معمر القذافي، والتي مسحت باصابع الحنان على المناطق الصحراوية المجدبة فاحالتها إلى أرض خضراء، قد وصلت أيضا إلى شعاب جهنم في بادية سرت، وغرست بها الأشجار، وزرعت النباتات، وأحالتها إلى واحة عامرة بالخضرة والظلال. هذه هي جهنم التي يريد راوي القصة الفرار إليها. إنها(ليست حمراء كالنار، وليست ملتهبة كالجمر)، وليس لها من ملامح جهنم إلا بعض حجارتها البركانية السوداء، ولكنها-وكما تصفها القصة-واحة تأوي إليها الطيور، وتأنس إليها الحيوانات البرية. والراوي الذي ينشد الهدوء والسكينة والسلام، ويبحث عن قضاء ساعة مع نفسه التي تاهت منه، لا يذهب إليها إلا لهذا الغرض، لأنكم-كما يقول لنا-(حاولتم الحيلولة بيني وبين نفسي، ولكنني بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم). هذا الراوي يجد أن المسافة التي بينه وبين نفسه تختفي عندما يذهب إلى تلك البقعة البعيدة عن زحام الناس والحياة. هذا هو جوهر القصة، وفيه إشارة إلى الجوهر الإنساني الذي تحتفي به القصة، وتدعونا بإصرار وقوة إلى أن نحافظ عليه، لكيلا يضيع منا في صخب الحياة العصرية وزيفها ومراعاتها. إذا فهي ليست قصة سوداوية، تعادى الحياة، وتطالبنا بالفرار إلى الجحيم، بل بالعكس من ذلك، إنها تحتفي بالحياة، وتحرض القارئ على أن يصون معدنها النفيس.

وبمثل ما تلفت هذه القصة أنظارنا إلى ما في حياتنا من قبح وتشويه، وتدعونا إلى الثورة ضد هذا القبح وهذا التشويه، فهي تدعونا إلى أن نتواصل مع أنفسنا، وأن ننتبه إلى وقاية أنفسنا من أمراض العصر التي تصيبنا بالانشطار. وليس غريبا بعد ذلك أن نتوسل لتحقيق هذا الغرض النبيل، باستدعاء رموز النضال في تاريخنا الحديث، فترصع سطورها بأسماء عمر المختار، و سعدون، و عبد السلام أبو منيار، والجالط، وغيرهم من الشهداء الذين قدموا دروس الفداء والكرامة الإنسانية، وسطعت دماؤهم تفيء ظلمة التاريخ. هؤلاء هم الذين اهتدوا إلى هذا الجوهر النفيس. والدروس التي قدموها لنا هي البديل عن جوهرة الحكم والخوذة الصولجانية السحرية.

وجاءت قصة(الموت) ، وبرغم استخدامها لذات (التقنية)، واهتمامها بنقل الإيقاع الداخلي قصة تاملية، فلسفية، تعتمد أسلوب التأمل، وتقف أمام تلك القضية التي وقف أمامها البشر منذ وجودهم فوق الأرض حيارى، يطرحون بشأنها الأسئلة، ويبحثون عن معنى لها، هي قضية الموت. إنها معالجة جديدة لهذا الموضوع الذي كان موضوعا محببا لكتاب القصة الانفعالية العاطفية، وأعلام الكتابة(الرومانسية) التي تمتلئ حزنا ودموعا وألما، وتستدر العواطف والأشجان. فالموت هنا يأتي دون دموع، ولا ابتزاز عاطفي، ولا حيل فنية تستدر عاطفتي الخوف والشفقة، كما في الأعمال"التراجيدية الكلاسيكية".تستحضر القصة لحظة المواجهة مع الموت، وتسعى لتشريح الفكرة باسلوب أقرب إلى مبضع الجراحين، دون إسراف في الانفعال والعاطفية، وتعتمد أسلوب التداعيات، والتدفق الحر للرؤى والأفكار، ويراد الشواهد التى يقتبسها الكاتب من حياة والده، فالقصة في محصلتها النهائية، أنشودة تمجيد للحياة في مواجهة الموت، برغم أن الموت هو موضوعها، وفي ذات الوقت فهي احتفاء بذلك الجيل، جيل الأباء الذي عاش ملاحم النضال، وشارك في معارك الجهاد، وكابد بصبر وقوة احتمال قسوة الطبيعة، فسعت هذه القصة القصيرة إلى تقطير تلك التجارب التى عاشها الراحل الكبير. ومن أجل احتواء هذه الحياة الزاخرة، لجأت القصة إلى استخدام عدد من"التقنيات" من بينها تكسير تراتبية الزمن، وتكسير حدود المكان، وارتفعت بهذين العنصرين من محدود يتهما إلى أن صار هذا الزمن هو زمن المواجهة بين الإنسان وبين حتمية الموت، وصار المكان هو العالم الواسع، باعتباره وعاء لتجارب البشر، بمثل ما هو وعاء للزمن. وهنا يلتقي شكل القصة بمضمونها، ليتحقق لها تلاحم الشكل والمضمون، فقضية كونية تشغل البشر منذ الأزل، لا يمكن أن يخدمها شكل محدد بتراتبية الأحداث، ومنطقيتها، وتطور إلى تحكمه قاعدة البد اية والوسط والنهاية، قضية كهذه لا تخدمها غير هذه الحركة الدائرية للمعالجة القصصية، وهذا الشكل الذي يشبه حلقة تبدأ من حيث انتهت، وتنتهي من حيث بدأت. إنها ليست قصة حدث، بقدر ما هي قصة صراع، والصراع هنا يدور بين الإنسان، وبين أكر الظواهر في حياة البشر شراسة وقوة، هو الموت.

والإنسان في هذه القصة، يخوض الصراع بضراوة، وقد امتلأ بقوة التحدي، مستعينا بكل موارده الروحية والمعنوية والبدنية من أجل الصمود في هذه المواجهة. ومن هنا يكتسب السؤال الذي بدأت به القصة دلالته الموحية، هل الموت ذكر أم أنثى؟. إن الموت يستخدم كل الألوان، ويرتدى كل الأقنعة، ويتنكر في شكل جندي من جند الغزاة، وبمتشق سلاح الفتك، أو يتنكر في شكل حية رقطاء، تنشب نابها الأزرق في جسم هذا الإنسان، وبان مدعوما بعوامل البيئة الصحراوية القاسية، أو بظروف المواجهة المسلحة غير المتكافئة، ومدعوما أيضا بحقيقة أن الموت هو النهاية الحتمية للبشر جميعا، ومع ذلك فإن البطل الذي تتحدث عنه القصة، ينتصر في عدد من هذه المواجهات مع الموت، ينتصر لأن إرادة الإنسان لها أيضا هامشها الذي تتحرك فيه، وتبرهن على أن الإنسان قادر على أن يسهم في صناعة أقداره، بدل أن يستسلم لها بإرادة مشلولة. إن لإرادة الحياة أيضا قدرتها على الفعل والتاثير، وقدرتها على المراوغة والمناورة والتحدى، حتى لو كان الموت هو الذي يقف في الطرف المقابل. والقصة بقدر ما هي حديث عن الموت، وهجاء له، فهي حديث عن الأب، وتمجيد لنضاله وصبره ومعاناته وعناده. وبمثل ما كانت القصة الأولى متعددة المستويات، تمنح نفسها لأكثر من قراءة، فإن هذه القصة أيضأ، تحمل داخل النص الظاهر الذي يتحدث بحياد وموضوعية عن تجارب الأب، نصا مضمرا يوحي بعمق الدلالة التي تكتسبها علاقة الابن بابيه. لقد وردت إشارة في القصة الأولى الى هذا-الأب، إشارة قصيرة موحية عندما يقول الراوي:"إنني أحب الجموع كما أحب أبى، وأخشاها كما أخشاه، من يستطيع في مجتمع بدوي بلا حكومة، أن يمنع انتقام أب من أحد أبنائه؟، هذه الإشارة الواضحة في القصة الأولى، نلتقي بها هنا، وقد امتزجت بروح النص، واختفت خلف سطوره، فالأب البدوى كما تصوره هذه الإشارة، إنما يمارس على ابنه سلطة مطلقة لا حدود لها. الأب هنا-إذا ليس مجرد نموذج إنسان نرى من خلاله قصة الصراع بين الانسان ومصيره المحتوم، إنه وجود طاغ يمتلئ الحديث عنه بعنصري الرهبة والحب، إذ يتحول الأب في روح هذا النص الى قوة، وإلى سلطة، تبسط نفوذها على عناصر الزمان والمكان التي يتعامل معها النص، بمثل ما تبسط نفوذها على الراوي الذي يروى هذه القصة. كيف إذا يموت هذا الأب الذي تجسدت فيه كل هذه القوة؟ إنه لا يموت، إلا إذا أراد هو نفسه أن يستدعى الموت، ويأمره بالمثول أمامه. وعندما كان أبناؤه وأهله الذين يتحلقون حول سرير احتضاره يبكون موته، كان هو وحده الذي يبتسم؟ لأنه كان يعرف أن الاستسلام للموت هذه المرة، لم يكن جبنا ولا تخاذلا ولا هزيمة، وإنما هو عمل من أعمال الشهامة. فقد جاءه الموت هذا اليوم مطيعا، متخاذلا، راجيا الرضا والقبول .

يستخدم الكاتب في قصتيه الاثنتين، "تقنية" واحدة في أسلوب السرد، هي ضمير المتكلم . وهذه التقنية القصصية، تمنح النص حرارة وألفة وحميمية، وتمح المتلقي فرصة أن يلتقي بالأحداث، ويتفاعل مع السارد البطل دون وسطاء. وهي أكثر التقنيات السردية استجابة لأسلوب التداعى الحر للانفعالات والأفكار والرؤى والعواطف، وأسلوب(المونولوج) الداخلى وتيار الشعور، حيث يستطيع الكاتب رصد التحولات النفسية، والكشف عن العوالم الداخلية، والتقاط أدن الخطرات التي تمر بطبقات الوعي وتقديمها، تدفقا وبوحا، وإيقاعاً سريعا تلقائيا، بعيدا عن نمطية النماذج، وتراتبية الأحداث، وصولا إلى استبطان واستكناه تلك المناطق العميقة في الروح.

وننتقل من الحديث عن هذه الضفيرة التي وحدت بين الشكل والموضوع، إلى الحديث عن سمة أخرى، ميزت هاتين القصتين، وهي الصدق، وإذا كان الصدق الفني، لا يقتضي بالضرورة أن يكون مرادفا لصدق الوقائع والأحداث والنماذج، أو صدق الأفكار التي يتبناها الكاتب، لأننا نعرف أنه يتحدث من خلال أقنعة ويختلق أحداثا وأشخاصا من الخيال، فأنا في هاتين القصتين نجد أن الصدق الفني، لايختلف عن صدق الحياة، بل وصدق الوقائع والأحداث والأفكار.

إن الصدق الفني يأتي دائما من صدق الدوافع والأسباب التي تختفي خلف الوقائع والأحداث، ويأتي من وجود نسق متماسك لملامح الشخصيات التي يقدمها خال من التناقض والافتعال، وهذا ما توفر لهاتين القصتين من ناحية، كما توفر لهما من ناحية أخرى مرجعية مهمة تقع خارج حدود النص، هي شخصية الكاتب الذي نعرف سيرته وحياته ونضاله، بمثل ما نعرف أفكاره وأطروحاته، وصار من الصعب في مثل هذه الحالة أن نفصل بين القصة وكاتبها. فالكاتب هنا ليس كاتبا عاديا، وإنما شخصية قيادية، يسهم في صناعة تاريخنا الحديث. لقد سقت هذه الملاحظة، وأنا أعرف أنني انتقلت من حديث النقد الذي يعتني بما يقوله النص، إلى حديث آخر من خارج النص. وهذا الانتقال. استوجبه ظرف استثنائي، وهو أن الكاتب هنا أيضا شخصية استثنائية، ويكتب عن أحداث ووقائع لها مرجعيتها في الواقع، كما يتناول أسماء نعرفها جميعا من طرفة بن العبد ونزار قبان إلى عمر المختار وسعدون ومحمد أبومنيار.

وأخيراً..

فإن ما توفر لهاتين القصتين من عمق التحليل، والقدرة على سبر أغوار النفس البشرية، والسيطرة على"التقنية" الفنية، وصدق وحرارة الانفعال أثناء الكتابة، يجعلها من الأعمال الإبداعية التي تحقق لقارئها المتعة الروحية، وتفيء له جوانب من حياته، وتحرك في نفسه رغبة صادقة لتجاوز سلبيات الواقع؟ شوقاً إلى معانقة الأبهى والأجمل في الحياة. وتلك هي أعظم رسالة يقدمها لنا الفن.

تحية لقائد الثورة مبدعا ومفكرا، وتهنئة للقارئ بهذا العطاء السمح الكريم الذي يثرى العقل والقلب